يواجه البلد حرباً مع اسرائيل منذ أشهر، السياحة شبه معدومة، أزمة مالية نقدية متصاعدة، قطاعات اقتصادية متداعية وسلطة سياسية غائبة عن الحلول.. وسط كل ذلك، نشهد وتيرة عالية من الاستيراد، أسواقاً نشطة، استقراراً بسعر صرف الدولار، ووفرة بالدولارات في شتى القطاعات. ما يطرح علامات استفهام حول مصادر تلك الدولارات، وماهية الأرقام الحقيقية للتحويلات من الخارج.
بالنظر إلى وتيرة خروج الأموال من لبنان، عبر قنوات الاستيراد والعمالة الأجنبية والنازحين السوريين وغير ذلك، في مقابل تحويلات رسمية من الخارج لا تتجاوز تقديراتها 7 إلى 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى إيرادات خجولة من التصدير بالمقارنة مع حجم الاستيراد الهائل، يصبح من المستغرب وجود توازنات بين عرض الدولار والطلب عليه. من هنا تتجه الأنظار إلى مصادر غير معلنة للدولارات الوافدة إلى لبنان ترسي التوازنات في الأسواق.
التحويلات الرسمية والمصرح عنها
قبل الدخول في تقديرات الحوالات الدولارية الفعلية الواردة إلى لبنان، لا بد من المرور على بعض الأرقام الرسمية للتحويلات، وإن كانت لا تعبّر بالضرورة عن واقع التحويلات فعلياً. فالتقديرات الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2023 تشير إلى أن التحويلات النقدية إلى لبنان تبلغ نحو 37.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ نحو 21 مليار دولار، ما يعني أن التحويلات بنظر الأمم المتحدة تقارب 7.5 مليار دولار سنوياً. كما يقدّر البنك الدولي التحويلات المالية إلى لبنان بين 6 و7 مليارات دولار سنوياً.
من جهة أخرى، تبلغ التحويلات عبر إحدى أكبر شركات التحويل المالي OMT قرابة مليار و500 مليون دولار سنوياً. وقد ارتفعت نسبة التحويلات الإلكترونية بعد أزمة 2019 بنحو 20 في المئة. أما عبر المصارف، فقد تراجعت التحويلات بشكل كبير جداً، من نحو 35 في المئة سابقاً. أما الزيادة الملحوظة فكانت من حصة التحويلات النقدية عبر المطار.
التحويلات الواقعية بالأرقام
التحويلات المالية النقدية عبر مطار بيروت تفوق التوقعات، وفق تقديرات الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. أما حجم التحويلات المالية عموماً إلى لبنان، فيرجّح شمس الدين بلوغها قرابة 22 مليار دولار. وهو رقم لم يشهده لبنان يوماً.
ويوضح شمس الدين في حديث إلى “المدن” أن حجم الاستيراد عام 2023 بلغ نحو 17.5 مليار دولار في مقابل صادرات بما قارب 3 مليارات دولار. النتيجة، خروج للدولارات بنحو 14.5 مليار دولار. يُخرج النازحون السوريون قرابة 3 مليارات دولار من البلد، والعمال الاجانب قرابة 800 مليون إلى 900 مليون دولار، ليصبح المجموع خروج دولارات بين 18 و19 مليار دولار من البلد. ما يعني أن الكتلة المعروضة من الدولار حالياً تفوق هذا الرقم قطعاً، يؤكد شمس الدين. والسبب أنه لو كان خروج ودخول الأموال شبه متوازٍ لما شهدنا كتلة معروضة من الدولارات. ما يعني أن الدولارات الواردة تفوق أرقام الدولارات الصادرة. ويتوقع شمس الدين دخول ما يتراوح بين 20 إلى 22 مليار دولار سنوياً إلى لبنان.
من إفريقيا والخليج
ويذكّر شمس الدين بأن أرقام التحويلات المقدّرة من قبل البنك الدولي (بين 6 و7 مليار دولار) ليست أرقاماً واقعية، إنما هي فقط الدولارات التي تمر في الممرات الرسمية للتحويلات، أي عبر المصارف وشركات التحويل المالي. وإذ يسأل مَن يحول اليوم عبر المصرف؟ يجزم بأن الغالبية الساحقة إن لم نقل كافة التحويلات من افريقيا إلى لبنان تأتي نقداً عبر “الشنط”، لاسيما أن التحويلات من افريقيا تاريخياً كان معظمها نقداً، فما بالك اليوم في ظل غياب الثقة بالقطاع المصرفي. ويقدّر تحويل أكثر من 400 ألف مغترب لبناني في افريقيا أموالهم نقداً إلى لبنان عبر أقارب أو أصحاب أو حتى شركات تقدم خدمات التحويل النقدي. كما أن جزءاً من التحويلات من الخليج يتم نقداً أيضاً.
ويلتقي مصدر مصرفي مع كلام شمس الدين بأن التقديرات الدولية للتحويلات المالية لا تعكس الواقع، مقدّراً التحويلات المالية إلى لبنان بنحو 10 مليارات. وهو رقم وإن كان يقل كثيراً عما يقدّره شمس الدين، إلا أنه يزيد بالطبع عما يقدّره البنك الدولي والأمم المتحدة.
ويلفت شمس الدين إلى نشاط الأسواق وكثافة التعامل بالدولار، فيقول “التعامل بالأسواق معظمه يتم بالدولار من المتاجر الكبرى إلى محطات المحروقات إلى الصرافين إلى محلات المواد الغذائية وعموم السوق، أي أكثر من 70 في المئة من التداول يتم بالدولار”. فالدولار المعروض هو نتيجة التحويلات الكثيفة التي تدخل البلد نقداً. وهذا ما يجعل القطاعات الاقتصادية في لبنان مستمرة حتى اليوم. من هنا، لا بد من إعادة النظر بحجم الناتج القومي المقدر بـ22 ملياراً. وحسب شمس الدين، يقدّر الناتج القومي اليوم بما يفوق قطعاً 30 مليار دولار.
حركة الأموال عبر المطار
حركة التحويلات المالية النقدية عبر مطار بيروت لا تخفى على أحد. وقد نشطت بشكل ملحوظ بعد 7 تشرين الأول، على الرغم من توقعات بتراجعها بسبب المخاوف الأمنية. ويقول مصدر جمركي من مطار بيروت في حديث لـ”المدن”، إن الواردات المالية النقدية عبر المطار لطالما كانت موجودة، لكنها نشطت أكثر خلال أعوام الأزمة، لاسيما خلال العام الماضي وبعد 7 تشرين الأول تحديداً.
ويذكّر المصدر بان التحويلات النقدية قانونية، لاسيما إن كانت تراعي المعايير الأمنية. ويقول “يمكن لأي وافد إلى البلد سواء كان لبنانياً أم غير لبناني أن يحوز على مبلغ مالي لا يزيد عن 15 ألف دولار، من دون الحاجة للتصريح عن ذلك. كما يمكن إدخال مبلغ يتجاوز 15 ألف دولار ويقل عن 50 ألف دولار، مع اقتصار الأمر على تصريح شكلي لدى السلطات الأمنية في المطار. أما إدخال مبالغ أكبر فهو أمر متاح بالطبع، لكنه يسلتزم بعض الإجراءات والتصريح عن مصدر الأموال.
وإذ يرجح الكثيرون ارتفاع منسوب مخاطر تبييض الأموال عبر لبنان، باعتماده مؤخراً على اقتصاد الكاش، ويحذّرون من أن البلد بات جاذباً للأموال القذرة، يستبعد شمس الدين شيوع عمليات تبييض الأموال في لبنان، لاسيما في ظل غياب نظام مصرفي، “فالاموال القذرة تدخل الاقتصادات الكاش في ظل وجود نظام مصرفي قائم، وذلك لتسهيل تبييضها وتحويلها. أما في الحالة اللبنانية، فهذا الأمر مستبعد باستثناء الإقبال على القطاع العقاري في مرحلة من المراحل”.
بالمحصلة، ترتفع احتمالات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي، لشبهات وتزايد احتمالات تبييض الأموال عبر اقتصاده، الذي بات بغالبيته اقتصاد “كاش”.