التدقيق في حسابات «كهرباء لبنان»… تدقيق في حلقات مسلسل فشل وهدر

يُطلّ علينا ملف الكهرباء من جديد لكن هذه المرّة من نافذة لطالما اعتبرتها المؤسسات المالية الدولية حاجة ملحّة لإطلاق عجلة الإصلاحات وإنتشال القطاع من قاع التشتّت المتراكم على مدى سنوات من الهدر وسوء الإدارة. شرطان أساسيّان وضعهما البنك الدولي لتمويل مشاريع وخطط النهوض بقطاع الكهرباء مرتبطان بتشكيل الهيئة الناظمة وفقاً للقانون رقم 462/2002 ساري المفعول، بالإضافة إلى التدقيق في حسابات مؤسسة كهرباء لبنان وفقاً للأصول والمعايير المتّبعة دولياً. هذا القطاع الذي كلّف الخزينة اللبنانية خسائر جسيمة وساهم بتنامي الدين العام، تمّ وضعه اليوم في خانة «المساءلة» باعتباره ممراً إلزامياً للتعافي ولكشف مصير أموال ومليارات تمّ صرفها واختفت مثلما اختفت الكهرباء العاجزة حتى عن إضاءة مصباح علاء الدين الذي ضاع في متاهات مغارة المصالح السياسيّة. فعن أي شفافيّة وعن أي تدقيق سيتم الحديث في الأيام المقبلة؟

أين أصبح التدقيق ولماذا لم يُنجز بعد؟

بحسب مكتب المدير العام ورئيس مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان «كمال حايك»، فإنه «بتاريخ 5/4/2023 وبموجب الكتاب رقم 1679، أبلغت مؤسسة كهرباء لبنان «أبو سليمان وشركاه» (العارض الفائز بالمناقصة التي أجريت بشهر كانون الأول 2021 إستناداً إلى دفتر الشروط المعدّ من قبل البنك الدولي وبإشرافه، وبموجب قرار صادر عن مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان وفقاً للأصول)، لإستلام قسيمة الطلبيّة إستناداً إلى العقد الموقّع معه سابقاً والبدء بمباشرة أعمال التدقيق الخارجي المستقل ببيانات مؤسسة كهرباء لبنان الماليّة للأعوام 2020، 2021 و2022 وتقييم أصول وإلتزامات المؤسسة. بحيث باشرت مؤسسة كهرباء لبنان وبكل شفافية، وفور إستلامها كتاب «أبو سليمان وشركاه» بتاريخ 11/4/2023، البدء بتسليم وتأمين المعلومات والوثائق والمستندات المفصّلة المطلوبة بموجب كتاب الشركة المذكور أعلاه، وهي ما زالت تقوم بتأمين كافة المعلومات المطلوبة وفق الأصول».

ما الذي يعترض إنجاز التدقيق وفقاً للمعايير الدولية؟

بحسب مكتب «حايك» فإنه «لغاية تاريخه لا توجد عراقيل أو صعوبات في تأمين المعلومات المطلوبة من قبل المدقّق والمباشرة بأعمال التدقيق، وقد أثنى «أبو سليمان وشركاه» على المؤسسة لحسن التجاوب والتعاون معه».

لكن وبحسب مصدر سياسي مطّلع لـ»نداء الوطن»، فإن «السبب الأساسي الذي يعترض عملية التدقيق هو غياب المحاسبة الجديّة في مؤسسة كهرباء لبنان، بحيث لا يوجد ضبط للنفقات ولا ضبط للمداخيل ولا يوجد مركز للمخاطر بحيث كان من المقرر إنشاء هذا المركز في مؤسسة كهرباء لبنان وحتى الآن لم يتم إنشاؤه نتيجة تداعيات إنفجار مرفأ بيروت. بالإضافة إلى غياب المراكز المخصّصة لضبط العدادات مع العلم أن عملية الضبط تلك تحصل إلكترونياً، كذلك لا يوجد مركز للكوارث فضلاً عن توزيع فواتير عشوائية. فالتبرير المقدّم إلى البنك الدولي يتلخّص بأن الدولة تقوم بإصلاحات وهميّة بحجة قرار زيادة التعرفة، إلّا أن الزيادة في الحقيقة لا تعني الإصلاحات».

فهل الأسباب هي محض تقنيّة؟ يجيب المصدر: «طبعاً لا، هناك أيضاً أسباب سياسية. فمؤسسة كهرباء لبنان هي كناية عن نموذج عن الفساد في لبنان، ممّا يعني الفلتان، عدم الإنضباط، عدم الإلتزام بالقانون، الرشاوى، الإكراميات، الهدر بالصيانة، الهدر بالمعدات… فهناك أطراف سياسية مستفيدة من هذا الوضع. فبمجرّد فتح تلك الملفات يعني وقف المنافع وهذا ليس بالشيء السهل».

ماذا عن الشفافيّة في عملية التدقيق؟

بحسب مكتب «حايك»، «إن بيانات مؤسسة كهرباء لبنان الماليّة معدّة بكل شفافيّة ووضوح ووفقاً للأصول. وتقوم المؤسسة بتأمين كافة المعلومات والمستندات المطلوبة لتنفيذ عملية التدقيق وفق المطلوب من قبل البنك الدولي».

بينما إعتبر المصدر المطّلع «أن التدقيق إذا حصل سيبيّن الكثير من المصائب فهذه قصة كبيرة. بهذه الإدارة وبهذه الهيكليّة وفي ظل نقص المفتشين ونقص الموظفين المعنيّين وغياب سلطة الرقابة فكل ذلك يعني وجود حالة عجز بحيث لن نصل إلى نتيجة. ممّا يعني أن شرط البنك الدولي غير قابل للتحقّق، فلهذا السبب تمّ إختصار الطريق وتمّ الذهاب نحو زيادة التعرفة الفوريّة. لأن مجمل قرارات مجلس إدارة كهرباء لبنان ومجلس الوزراء ووزير الطاقة والمراسلات المتبادلة في هذا الخصوص، تقول بضرورة تطبيق الخطة تدريجياً بالتزامن مع تحسين الجباية ورفع التعديات ووقف الهدر ومراعاة الأوضاع الإقتصاديّة والأسر الأشد فقراً، فكل هذه الأمور لم يتمكنوا من تحقيقها».

«فمنذ تأسيس خطة الطوارئ الخاصة بقطاع الكهرباء التي بدأت في العام 2020 كان قوامها زيادة في التعرفة. لماذا؟ لأنهم عاجزون عن الحصول على المال من مصرف لبنان، وكذلك عاجزون عن تأمين جباية صحيحة ورفع التعديات عن شبكة الكهرباء. لذلك رموا الأمر على الناس بحجّة أنهم بحاجة لزيادة التعرفة من أجل تأمين الكهرباء بزيادة بين 8 إلى 10 ساعات يومياً».

ماذا تقول خطة الكهرباء؟

يُصار إلى زيادة أو رفع التعرفة تدريجياً ضمن آلية محدّدة يتم الإعلان عنها ويتم تنفيذها قوامها التالي: أولاً تحسين الجباية، يتابع المصدر، «عندما نقول تحسين الجباية هذا يعني أن مؤسسة كهرباء لبنان سوف تقوم بتحسين الجباية على مختلف الأراضي اللبنانية. بمعنى آخر، يجب أن ترسل الفواتير دورياً وضمن مواعيد محدّدة وإلى جميع المناطق اللبنانية بالتساوي ضمن الوقت المحدّد. زيادة على ذلك، وجب تأمين رفع التعديات ووقف الهدر الفني وغير الفني القائم على الشبكة من تعديات لبنانيّة وأجنبيّة (أي المخيمات الفلسطينية وتلك التابعة للنازحين السوريين). يضاف إلى ذلك، وعند رفع التعديات، يجب ضبط هذا الموضوع كي يكون حقيقياً وجدّياً ولا يبقى مجرّد بروباغندا ومجرّد دعاية شكليّة فقط أمام الإعلام لتعود التعديات بعد ذلك من جديد».

ثانياً، يجب أن تقوم مؤسسة كهرباء لبنان بتأمين تركيب عدّادات كهرباء تشمل مختلف الأراضي اللبنانية. «مثلاً يوجد 40 ألف طلب في الجنوب لم يتم تركيبها لهم بعد لكنهم يستفيدون من الكهرباء حالياً. لماذا؟ لأن الشركات مقدّمة الخدمات غير قادرة على تنفيذ هذا الشيء. فما بين رفع التعديات وتحسين الجباية وتركيب العدادات الجديدة، يكون الّذين يتحمّلون كلفة رفع التعرفة هم من يشكّلون ثلث الشعب اللبناني بينما الثلثان المتبقيان لا يتحمّلانها».

رإلى جانب ذلك، فالخطة تلحظ مراعاة الأوضاع الإقتصادية العامة (منها مسألة البنوك والكاش وغيرها) ومراعاة مسألة الأسر الأشد فقراً وهذا الأمر بحاجة إلى إحصاء لتحديد المعيار الذي على أساسه يتم تصنيف الأسر، فالمعيار في هذا الخصوص غير واضح بعد.

في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن جميع الفواتير في لبنان تُدفع بالليرة اللبنانية، إلا أن فواتير الكهرباء مربوطة بمنصة صيرفة زائد عليها 20% بحيث تتبدّل أسعارها بحسب تبدّل سعر صرف الدولار. من هنا جاء قرار مجلس الوزراء الأخير بالموافقة على فتح حساب خاص لوزارة المالية في مصرف لبنان مخصّص لتسجيل الأرباح والخسائر الناتجة عن تحويل تحصيلات مؤسسة كهرباء لبنان بالليرة اللبنانية وفقاً لمنصة صيرفة بتاريخ إصدار الفواتير زائد 20%، وهذا يعني أن الدولة أصبحت تحصّل فواتير الكهرباء بحسب دولار صيرفة. فكل ذلك هدفه فقط تحصيل أكبر عدد ممكن من الأموال بأقل عدد ممكن من المستهلكين، فأين الإصلاح في هذه الإجراءات؟

بالنسبة إلى موضوع الهيئة الناظمة؟

يجيب المصدر: «برأيي في حال تمّ تشكيل هذه الهيئة ستصبح مثل هيئة أوجيرو فهي لن تغيّر شيئاً. فطالما توجد مؤسسة لديها إدارة وتملك سلطة وصلاحيات تصبح الهيئة الناظمة موازية لها لجهة توزيع الصلاحيات. فنحن نقوم بتأليف هيئة ناظمة ونمنحها صلاحيات من مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة كي تدير القطاع بالوقت الذي نملك فيه إدارة للقطاع، لكن الإدارة سيئة فهي (أي الهيئة الناظمة) لن تغيّر شيئاً في هذا المجال سوى زيادة الموظفين والمعاشات، فتحسين أداء مؤسسة كهرباء لبنان يمكن أن يحلّ الموضوع بدون تشكيل الهيئة».

توحيد الجهود أمر ضروري

يبقى النقد مشروعاً والتصويب على الإنحرافات واجب. فهو لا يأتي بهدف الإتهام بل بهدف التصحيح. فكل هذه التداعيات يتحمّل مسؤوليتها النهج الإنحداري الذي ساد في إدارة المرافق العامّة منذ تشكّل القطاع وتتحمّل مسؤوليتها السلطات السياسية المتعاقبة وليس طرف واحد، إذ إن مرحلة المسار الإنحداري بدأت مع تشكّل القطاع وهي ليس وليدة اليوم أو وليدة السنوات القليلة الماضية. فجذور المشكلة تعود بالأساس إلى إعتبار هذا القطاع مصدراً لجني المكاسب في ظل غياب الرقابة والمحاسبة اللازمة، مع عدم إغفال تأثير التناقض بالمصالح السياسية بين مختلف أطراف القوى الحاكمة على القطاع في ظل غياب رؤية مشتركة له، فالقرارات تمليها المصالح السياسية وليس المصلحة العامة العليا.

من هنا، تصبح الحاجة ماسّة إلى توحيد الجهود الرامية لنهوض قطاع الكهرباء في لبنان بطريقة منطقيّة وواقعيّة وعلميّة بعيداً عن الطوباوية مراعاةً لخصوصيّة الحالة اللبنانيّة المرهونة بالتوافق.

مصدرنداء الوطن - باسكال مزهر
المادة السابقةهل صندوق النقد مسؤول أيضاً عن إنهيار لبنان؟
المقالة القادمةفتوح: البنوك خط الدفاع الأول ضد جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب