حتّى نهاية حزيران الماضي، استمرّت معدلات التضخّم بالانخفاض التدريجي، تمامًا كما جرى على مدى الأشهر الماضية، ومنذ بداية هذا العام. وفي النتيجة، سجّلت نسبة التضخّم حاليًا حدّها الأدنى على الأطلاق، مقارنة بجميع الفترات المماثلة، خلال السنوات الخمسة الماضية، أي منذ بداية الأزمة. وهذا التطوّر لا يعني، بطبيعة الحال، انتهاء مرحلة القفزات الكبيرة في الأسعار، التي ستستمر بالارتفاع –مقارنة بالعام الماضي- وفقًا لنسبة التضخّم الحاليّة. غير أنّ انخفاض نسبة التضخّم ستعني تباطؤ وتيرة الزيادة في أسعار السوق، مقارنة بالسنوات الماضية.
نسبة التضخّم تنخفض مجددًا
بحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي، بلغت نسبة التضخّم في نهاية حزيران الماضي حدود الـ 41.78%، أي أنّ أسعار السوق التي يتم تتبعها باتت أعلى بهذه النسبة، مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. هذه النسبّة، تمثّل رقمًا محدودًا للغاية، إذا ما قمنا بمقارنتها بالنسب التي جرى تسجيلها في شهر حزيران من كل عام بعد بدء الأزمة، والتي بلغت: 253.55% خلال العام الماضي، و210.08% خلال العام 2022، و100.64% خلال العام 2021، و89.74% خلال العام 2020.
بهذا المعنى، بلغت نسبة التضخّم ذروتها القصوى بحلول العام 2023، قبل أن تعود وتنخفض بسرعة، وصولًا لأدنى مستوى منذ العام 2020، خلال هذه السنة.
والنسبة الراهنة مازالت أعلى من المتوسّط الطبيعي، والذي بلغ، على سبيل المثال، 12.9% بالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العام الماضي، وهي نسبة تشمل تأثير اقتصادات الدول المأزومة في المنطقة. غير أنّ نسبة التضخّم التي يسجّلها لبنان حاليًا تشكل تحسّنًا ملموسًا وواضحًا، قياسًا بالنسب المماثلة التي سُجلت خلال سنوات الأزمة. وبالحد الأدنى، يمكن القول أن لبنان تجاوز مخاطر التضخّم المفرط، وسيناريوهات التدهور السريع وغير المضبوط في قيمة النقد، التي لطالما شهدها اللبنانيون منذ بدايات العام 2020.
عقلنة التضخّم على هذا النحو، يمكن ربطها بالعديد من العوامل، ومنها الاستقرار النسبي في سعر الصرف منذ آذار 2023، وهو ما حيّد تأثير ارتفاع أسعار السلع المستوردة بفعل انخفاض قيمة الليرة. كما يمكن القول أنّ التصحيحات التدريجيّة التي طرأت على أسعار الصرف المعتمدة لاستفياء الضرائب والرسوم الجمركيّة أخذت مفعولها منذ أشهر، ولم تعد عنصرًا مؤثرًا في معادلة ارتفاع الأسعار اليوم.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ الزيادة في أسعار السوق كانت مرتفعة وغير متناسبة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ثبات سعر الصرف بين حزيران 2023 وحزيران من هذا العام. وهذا ما يشير إلى وجود عوامل إضافيّة ما زالت تدفع باتجاه زيادات الأسعار، ومنها التضخّم وارتفاع الأسعار في الأسواق العالميّة، وارتفاع كلفة الشحن البحري والتأمين على البواخر، بفعل الاضطربات القائمة في منطقة البحر الأحمر. أمّا العنصر الأخير، والأهم، فهو دولرة الأسعار منذ العام الماضي، التي زادت من تقلّبات أسعار السوق مؤخرًا، بعد تثبيت هوامش الربح بالدولار النقدي.
تفاوت زيادات الأسعار
الإحصاءات التي قامت بها إدارة الإحصاء المركزي، أظهرت تفاوتًا كبيرًا في نسب ارتفاع الأسعار، بحسب نوعيّة السلع وأبواب الإنفاق. فأسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الكحوليّة، اقتصرت زياداتها على نسبة لم تتجاوز الـ 29.58%، بينما انخفضت الزيادة في أسعار خدمات النقل إلى 18.55% فقط. وبالمثل، انخفضت الزيادة على باب إنفاق الفنادق والمطاعم إلى 23.77% فقط، مقابل 16.76% بالنسبة إلى مشتقات التبغ والمشروبات الكحوليّة.
في المقابل، برزت الارتفاعات الأكبر والأكثر تأثيرًا، والتي قادت ارتفاع المؤشّر العام، في باب الإنفاق على التعليم، حيث ارتفعت أسعار هذه الخدمات بالتحديد بنسبة 587.67%، وهذا ما يعكس أثر الارتفاع المستمر في أقساط المدارس والجامعات الخاصّة. وكذلك سجّلت كلفة الإيجارات ارتفاعًا فاقت نسبته ارتفاع المؤشّر العام، وبنسبة قاربت الـ 43.11%، وهو ما يؤشّر إلى تأثير تصحيح بدلات عقود الإيجار بشكل تدريجي.
الملفت أكثر للنظر، هو أن نسبة ارتفاع الأسعار، ما بين شهري أيّار وحزيران الماضيين، لم تتجاوز الـ 0.28%، ما يدل بوضوح على استقرار نسبي هذه السنة في أسعار السوق. أمّا نسبة التضخّم التي عكسها المؤشّر العام، فظلّت مرتبطة بارتفاع الأسعار الحالي، عند مقارنته بمستوى الأسعار خلال العام الماضي، عند رصد سلّة من الخدمات والسلع التي تأخذها إدارة الإحصاء المركزي بعين الاعتبار عند إعداد المؤشّر.
تأثير التصعيد الراهن
ثمّة تداعيات واضحة ستتركها مرحلة التصعيد الراهنة على مؤشّر التضخّم خلال الفترة المقبل. فارتفاع كلفة الإيجارات، في المناطق الآمنة التي يقصدها النازحون، ستؤثّر طبعًا على مؤشّر التضخّم العام، عند احتسابه مجددًا في نهاية هذا الشهر. وكما ذكرنا سابقًا، كان ارتفاع في كلفة الإيجارات أحد العوامل الضاغطة، التي رفعت المؤشّر العام خلال الأشهر الماضية. وعلى النحو نفسه، سيكون متوقعًا أن نشهد بعض الارتفاع في كلفة بعض الخدمات العامّة والأساسيّة، أو حتّى السلع التموينيّة التي يجري تخزينها، جرّاء ارتفاع الطلب عليها في المرحلة الراهنة.
غير أنّ التأثير الأكبر يمكن ترقّبه في حال توسّع نطاق المواجهات القائمة، وخصوصًا إذا ما ترافق ذلك مع تصعيد كبير على المستوى الإقليمي، لا المحلّي فقط. ففي هذه الحالة، قد يكون متوقعًا أن تتأثّر مجددًا كلفة الشحن والتأمين على الشحن البحري، التي ترتبط بشكل مباشر بمستوى المخاطر القائمة في المنطقة. وهذا ما سينعكس في ارتفاعات ملحوظة في كلفة السلع المستوردة، التي تدخل كلفة الشحن ضمن تسعيرتها. أما تغيّر الأسعار جرّاء أي شح محتمل في سلاسل توريد السلع الأساسي، فسيرتبط بخطط الطوارئ التي يمكن أن تعتمدها الحكومة، لضمان هذا النوع من النوع من الواردات خلال الحرب.
في النتيجة، من المبكر حسم التوقعات بشأن تأثير التصعيد الراهن على أسعار السوق، إذ سيعتمد ذلك على سيناريوهات التصعيد في المستقبل. لكنّ الأكيد هو أن أحداث الأيام الماضية ستترك أثرًا، ولو بدرجة محدودة، على مؤشّر التضخّم العام، بعد الانخفاضات المتتالية التي سجّلها هذا المؤشّر خلال الأشهر الماضية.