يتجه اللبنانيون في شكل متزايد إلى وسائل الدفع الإلكتروني كبديل عملي عن التعامل مع المصارف التقليدية في ظلّ الانهيار الاقتصادي والمصرفي المستمر منذ سنوات. فمع استمرار القيود المشددة على السحوبات وتراجع الثقة في المصارف التي كبّدت المودعين خسائر فادحة، يبرز المزيد من التطبيقات الإلكترونية كوسيلة دفع أكثر مرونة في الحياة اليومية، إلى جانب التطبيقات التي باتت تتسّع أكثر فأكثر في السوق اللبنانية مثلWhish Money وOMT وغيرها.
وعلى الرغم من أن النقد لا يزال يهيمن على معظم التعاملات، إلا أن هذا التحول التدريجي يعكس بداية مسار جديد يضع النظام المصرفي التقليدي أمام تحديات وجودية، في بلد يعاني من ضعف البنية التحتية المالية، ومن غياب الثقة في مؤسساته النقدية، ما يطرح تساؤلات حول حجم التعاملات النقدية وتقلّصها لمصلحة السوق التي باتت شركات التحويل المالي والتطبيقات الإلكترونية تستحوذ عليها، مع تراجع حجم المتعاملين مع القطاع المصرفي في شكل دراماتيكي.
الرقمنة تخطو خطواتها الأولى
ومع أن التعاملات في الأسواق اللبنانية لا تزال بغالبيتها نقدية، فإنّ الدفع الإلكتروني شق طريقه تدريجاً، مع تزايد الاعتماد على البطاقات والتطبيقات المالية الإلكترونية الحديثة. وفي جولة لـ”المدن” على عدد من السوبر ماركت وكبرى المتاجر والمطاعم، أكد المسؤولون عن معظمها أن نسبة قليلة من الزبائن بدأوا يتحولون نحو الدفع الإلكتروني المصرفي، خصوصاً بعد الأزمة المصرفية التي أفقدت الكثيرين ثقتهم بالمصارف. أما العدد الأكبر منهم “فباتوا يفضلون وضع مبالغ صغيرة في تطبيقات مثل Whish Money وOMT وغيرها، بدلاً من إيداع آلاف الدولارات في المصارف خوفاً من تجميدها أو خسارتها، ويشعرون بأن هذه الطريقة أكثر أماناً، حيث يمكنهم استخدام الأموال عند الحاجة دون قيود”. وقدّر عدد من المطاعم أن بين 30 و40 في المئة من العملاء أصبحوا يعتمدون على هذه الوسائل، مقارنةً بعام مضى حين كان النقد هو الخيار الوحيد تقريباً.
النقد يهيمن على المعاملات الكبيرة
ورغم هذا التوجه، يبقى النقد هو الخيار الأساسي في المعاملات اليومية، وخاصة في الصفقات الكبيرة. يوضح الخبير في المخاطر المصرفية محمد فحيلي، أن الدفع الإلكتروني لا يزال مقتصراً على المشتريات الصغيرة، بينما تظل المعاملات التجارية الكبيرة تعتمد على النقد.
وقال فحيلي في حديث إلى “المدن”: حتى عندما يتم تحويل الرواتب عبر الحسابات المصرفية أو شركات التحويل، يقوم معظم الموظفين بسحب أموالهم نقداً فور استلامها”، كما أشار إلى أن “بعض المحلات التجارية، مثل سوبرماركت، تُظهر أن أكثر من 80 في المئة من المدفوعات لا تزال نقدية، سواء بالدولار أو الليرة اللبنانية”.
المصارف الرقمية.. فرص جديدة وتحديات أمنية
وفي محاولة لاستعادة الثقة ومواكبة العصر الرقمي، أطلقت بعض المصارف اللبنانية، مثل بنك عودة وبنك بيبلوس، خدمات مصرفية رقمية. كما سمح مصرف لبنان المركزي بفتح حسابات “فريش” المرتبطة ببطاقات دفع إلكترونية عبر التعميم رقم 165، في خطوة تهدف إلى تشجيع التحول نحو الدفع الإلكتروني.
لكن فحيلي يحذر من المخاطر التي قد تصاحب هذا التحول، قائلاً: “المصارف الرقمية قد تتعامل مع المودعين بطريقة مختلفة عن الخدمات التقليدية، مما قد يزيد من مخاطر عدم حماية حقوقهم”.
كما يشير إلى أن وسائل الدفع الإلكترونية تظل عرضة للاختراقات والاحتيال، خاصة في ظل ضعف الثقافة الرقمية لدى الكثير من اللبنانيين.
ويتساءل فحيلي: “هل يمكن لهذه الوسائل أن تصبح بديلاً دائماً؟ ويؤكد أن الإجابة تعتمد على قدرة لبنان على معالجة أزمته المصرفية، وتعزيز الثقة بالقطاع المالي، وبناء نظام دفع إلكتروني آمن.
رقمنة واعدة.. لكن الطريق طويل
من جهته، يشير رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية منير راشد إلى أن “أنظمة الدفع الإلكتروني ما زالت في مرحلة التأسيس، ولم تتمكن بعد من منافسة بطاقات الائتمان التقليدية”، موضحاً أن تأثير هذه الوسائل يظل محدوداً بسبب القيود المفروضة عليها في مجال الإقراض، مما يحجم دورها في الوساطة المالية.
ويلفت راشد إلى أن التعامل بالنقد لا يزال الخيار السائد لدى معظم اللبنانيين، نتيجة عوامل متعددة أبرزها: انعدام الثقة في المؤسسات المصرفية، وغياب الضمانات الكافية لحماية المستخدمين من عمليات الاحتيال الإلكتروني، إضافة إلى نقص البنية التحتية اللازمة لتعميم الدفع الرقمي في مختلف المناطق.
ورغم أن التعامل النقدي يوفر درجة أعلى من الأمان المباشر، إلا أنه يتطلب بدوره اليقظة للتأكد من سلامة العملات المتداولة وخلوها من التزوير.
لا شك أن لبنان يشهد تحولاً تدريجياً نحو الرقمنة، لكنه لا يزال في مراحله الأولى. فالنقد يهيمن على الحركة الاقتصادية، بينما تبقى الوسائل الإلكترونية حلاً جزئياً في ظل غياب الثقة والبنية التحتية الكافية. وقال فحيلي: “رغم أن الكاش ما زال هو السائد، إلا أن الخطوات الأولى نحو الرقمنة قد تكون بداية لمستقبل مالي أكثر مرونة في لبنان”.
Whish توسع نطاق خدماتها المالية الرقمية
من حهتها شركات التحويل المالي لاسيما الكبرى منها تعمل على توسيع نطاق خدماتها. وقد كشف مصدر من شركة “Whish” لـ”المدن” عن تسجيل التطبيق نموًا غير مسبوق، مع تجاوز عدد مستخدميه مليون مستخدم في أكثر من 110 دول حول العالم. وفي لبنان، شهد التطبيق طفرة استثنائية خلال العام الجاري، حيث أضاف آلاف المستخدمين النشطين منذ آخر تحديث للإحصائيات عام 2025.
وأصبحت بطاقات “Whish” الرقمية وتطبيقها وسيلة دفع معتمدة لمختلف التعاملات اليومية، بدءًا من التسوق ودفع الفواتير، مرورًا بالمعاملات التجارية، ووصولًا إلى الترفيه والخدمات المالية. وأوضح المصدر أن التطبيق تحوّل أداة أساسية في القطاع الوظيفي، حيث يعتمد عليه عشرات الآلاف من الموظفين لصرف رواتبهم شهريًا. كما أكد أن الاستخدام قفز بشكل ملحوظ بعد الأزمة الاقتصادية وأزمة المصارف في لبنان، مما يعكس ثقة المستخدمين به كحل رقمي آمن.
رغم الخطوات الأولى الواعدة للتحول الرقمي في لبنان، يظل الاقتصاد أسيرًا لهيمنة النقد، كتعبير صارخ عن أزمة ثقة عميقة في النظام المصرفي والمالي. فوسائل الدفع الإلكتروني، وإن قدمت حلولًا جزئية للتعاملات اليومية، إلا أنها تواجه عقبات كبرى تتمثل في غياب البنية التحتية الرقمية، وضعف الضمانات الأمنية، وتردُّد المستخدمين في التخلي عن النقد كملاذ آمن.



