التكنولوجيا الرقمية ساحة معركة جديدة بين الدول

مع تزايد اعتماد أنماط الحياة المعاصرة على أنظمة تشغيل معلوماتية وتطبيقات رقمية، تواصل المجموعات التكنولوجية العملاقة السيطرة على الشبكة الرقمية، والتحكم في بيانات المستخدمين والحكومات. فهل ينتهي الأمر لأن نصبح جميعا رهائن لهذه الشركات التي تستمر في فرض إملاءاتها في فضاء إلكتروني يحكمه الذكاء الاصطناعي وتسيطر عليه المعايير التقنية؟

تنامي سيطرة التكنولوجيا الرقمية غير أساليب وطرق ممارسة الأعمال، حيث تمكنت الشركات العملاقة من تصدر المشهد العالمي، من خلال ما حققته من أرباح طائلة، وزيادة قيمتها السوقية إلى مستويات أصبحت تتعدى معها ميزانيات بعض الدول.

إننا نعيش في زمن أطلق عليه البعض “عصر الاستباحة الرقمية”، وهو عصر ليس فقط نكون فيه خاضعين لنوع من الرقابة الشاملة بحيث يتم جمع بياناتنا بدقة على مدار الساعة، بل إننا لا ندري على وجه الدقة أين يتم تخزين هذه البيانات.

تلك السلطة المطلقة، في تدبير وتنظيم الفضاء الرقمي الممنوحة لشركات التكنولوجيا الكبرى، التي يعتبرها البعض شكلا جديدا من أشكال الاستعمار، وتنفلت من تحكم الدولة.

فصلاحيات الشروط العامة لاستخدام الخدمات عبر الإنترنت، والتحكم في موارد الشبكة وحفظ البيانات الشخصية وتخزينها، أدت إلى قلب أنماط الحكم وأعادت النظر في مفهوم سيادة الدولة، وفق تعريفها التقليدي.

تحرش إلكتروني

لا يمر يوم من غير أن نسمع فيه عن اختراق إلكتروني ما، هنا أو هناك، أدى إلى انتهاك خصوصية المستخدمين، يكشف عن بعض التكتيكات الجديدة التي تنتهجها الشركات والحكومات على حد السواء، في سياسة تُعرف بـ”غرف البيانات الشخصية للأفراد”.

مؤخرا، مثلت شركة فيسبوك أمام القضاء بتهمة التجسس على مستخدمي تطبيق إنستغرام، هذه المرة من خلال الاستخدام غير المصرح به لكاميرات هواتفهم المحمولة، وعلى الرغم من أن فيسبوك رفضت هذه الاتهامات، وعزت الأمر إلى خطأ تقني، فإن القضية فضحت إلى أي مدى أصبحت خصوصية المستخدمين هشة، وأننا أصبحنا ضحية مراقبة مكثفة وشاملة على مدار الساعة.

قد يأتي أحد العاملين بشركة لتكنولوجيا المعلومات، ويستخدم ميزة الولوج، التي يتمتع بها بحكم وظيفته، للتجسس على المستخدمين من باب المتعة والتسلية، وقد وقع هذا فعليا في كثير من المرات، وكانت الضحايا غالبا من النساء، اللواتي تعرضن لما يُسمّى بـ”التحرش الإلكتروني”.

والأسوأ من ذلك كله هو أنه، وفي العديد من الحالات، يتم بناء نموذج معلوماتي عن المستخدم يخالف حقيقته، وهو ما يضعه في حالة من الانفصام الرقمي، بحيث تتكون عنه هوية تلصق به ما لا يتطابق مع هويته الحقيقية، أو الهوية التي عمل على مدار حياته على تكوينها. فالبيانات مهما بلغت دقتها تبقى عمياء.

كونك تبحث عن نوع ما من السجائر لا يعني أنك مدخن؛ ربما فقط تبحث لغرض معرفة الأسعار ومقارنتها بسلعة أخرى، وبذلك يتم تكون شخصية رقمية عنك هي شخصية مدخن، وتخضع عندها لكمّ من الإعلانات عن التدخين، الأمر الذي ربما يؤثر على نفسيتك ويدفعك إلى تبني عادة التدخين.

في كل لحظة تكون فيها “أونلاين” على شبكة الإنترنت، أنت عرضة للاستباحة الرقمية. جميع مواقع الويب التي تدخل إليها، وجميع الإعلانات التي تقرأها، وجميع الأماكن التي تذهب إليها، وجميع الأشخاص الذين تتواصل معهم، والوقت الذي تستغرقه في مكان ما، أو في الحديث مع شخص ما، وجميع اتصالاتك، ومدة هذه الاتصالات وتوقيتها، كل ذلك وأكثر يتم رصده ومراقبته وتخزينه على شكل بيانات رقمية في واحد من السيرفرات العملاقة التي تتبع إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات، سواء كانت أمازون، أو IBM، أو مايكروسوفت أو ألفا بيت – غوغل، وهي أكبر أربع شركات تمتلك خدمة التخزين السحابي عالميا.

ليس هذا وحسب، بل إن جهازك المحمول قادر على تخزين تحركاتك حتى وأنت خارج خدمة الإنترنت، كما أن منصات السوشيال ميديا مثل فيسبوك تقوم بتخزين حتى المحادثات التي قمت بحذفها من قائمة الماسنجر الخاص بك، أو أولئك الأشخاص الذين قمت بحذف صداقتهم من قائمة حسابك.

مراقبة شاملة

إن تقنيات التعرف على الصوت، أو التعرف على الوجه، تجعل المراقبة تصل إلى أماكن لم يكن أحد يتخيل الوصول إليها سابقا. إن شركات تكنولوجيا المعلومات، ومن خلفها الأجهزة الأمنية المتخصصة التابعة للحكومات، تسعى من خلال هذه التقنيات إلى تحقيق ليس مجرد المراقبة الشاملة بل أيضا المراقبة الكثيفة.

فجمع البيانات الخاصة بك وحصدها من قبل هذه الكيانات لا يتعلق فقط بتتبع النقرات التي تقوم بها على جهازك الموصول بالإنترنت وحسب، بل يتعدى ذلك إلى رصد تقاسيم وجهك وتموجات صوتك. إننا نتحول مع هذه التقنيات إلى بصمات رقمية، وهي بصمات، للأسف، مفروضة علينا ولا نملك حرية الانفلات منها.

نحن اليوم ننتقل سريعا من نموذج المراقبة الشاملة، الذي تحدث عنه ميشيل فوكو، إلى مجتمع التحكم والسيطرة الذي حذر منه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز؛ أي الانتقال من سيطرة مشتتة ومفككة، إلى سيطرة محكمة وشاملة، في ظل الحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء، ومحاولات إدماج الآلة بالإنسان، كما يسعى إلى ذلك الملياردير الأميركي إيلون ماسك، من خلال اختراع شريحة رقمية تُزرع في دماغ الإنسان، قادرة على التحكم في بعض الوظائف الحيوية فيه، فضلا عن علاج بعض الأمراض المزمنة.

قريبا قد تصبح جميع البيانات مدمجة بأعصاب الإنسان لا متوقفة على مفاصله عندما ينقر على الفأرة كما يحدث الآن.

إننا مقبلون على عصر تصبح القرصنة فيه غير متوقفة على الواجهات الحاسوبية الإلكترونية، بل تتعداها إلى الإنسان ذاته، من خلال اعتراض أفكاره والتعرف عليها، وربما العبث بها وتوجيهها.

الخوف ليس من فكرة استبدال الآلة بالإنسان، بل من أن يتم الإدماج بينهما، بحيث تنتقل خصائص الآلة إلى الإنسان، وبذلك تتضاءل المعاني الإنسانية في الحياة الأمر الذي يضعنا أمام عصر فرانكشتاين، ولكن هذه المرة لن نكون بصدد وحش مجمع من بقايا جثث، بل وحش مركب من إنسان وآلة.

نشاط خبيث

تشكّل هذه المراقبة الكثيفة، وجمع البيانات الدقيق، العصب الاقتصادي الذي تقوم عليه الأنظمة الرأسمالية، والرصيد الرقمي الذي تبني عليه الحكومات سياساتها في إحكام السيطرة على المجتمعات ومراقبتها.

لم تعد البيانات مجرد ترف، بل هي أساس الربح، والتحكم في هذا العصر.

وفي أعقاب انتشار فايروس كورونا في شتى بقاع العالم، وما أفرزه من تراجع للتواصل البشري المباشر فاسحا المجال لهيمنة العلاقات الافتراضية، “كان القطاع التكنولوجي من أنجح القطاعات في فترة الجائحة، حيث إنه كان حاسما في تدبير عمليات الصيانة عن بعد، وفي تسهيل العمل عن بعد أو حتى في التواصل. وهكذا تمكنت الدول التي لديها قطاع تكنولوجي متقدم من الاعتماد عليه للتخفيف جزئيا من آثار الأزمة على المستوى الاقتصادي”.

ورغم التوجه المتزايد إلى العمل عن بعد، إلا أن الخبراء الإلكترونيين في حلف شمال الأطلسي، حذروا من تزايد هذه الظاهرة التي، حسب رأيهم، ستضاعف من مخاطر التعرض لهجمات إلكترونية.

ويحتفظ حلف الأطلسي في إستونيا بخليتين إلكترونيتين، استحدثهما قبل أكثر من عقد، في أعقاب سلسلة من الهجمات الإلكترونية كان مصدرها روسيا المجاورة.

وقال مدير “مركز التميز للدفاع الإلكتروني التعاوني” التابع لحلف شمال الأطلسي ياك تارين، إن “الإقبال الواسع النطاق على العمل عن بُعد اجتذب جواسيس ولصوصا ومجرمين”.

ولاحظ أن زيادة كمية المعلومات المتدفقة بين خوادم المؤسسات والشبكات المنزلية تتسبب بتحديات جديدة لأصحاب العمل.

ونبّه تارين إلى أن “مواجهة هذه التحديات الجديدة أمر معقد ويتطلب الكثير من الإمكانات، بالإضافة إلى نهج مختلف”.

وأضاف “في سعينا إلى تقييم مدى النشاط الخبيث في الفضاء الإلكتروني المزدحم في عصر كوفيد – 19، لا نرى على الأرجح سوى جزء بسيط” بالمشكلة.

وأظهر استطلاع على مستوى أوروبا في سبتمبر أن نحو ثلث الموظفين يعملون من المنزل.

ويبذل العاملون في مركز “سايبر رينغ” التابع لحلف شمال الأطلسي في تالين جهودا في مواجهة هذه التحديات. وتتولى قوات الدفاع الإستونية الإشراف على مبنى هذا المركز الذي أحيط بالأسلاك الشائكة وفرضت حوله حراسة مشددة.

وتوفر غرف الخوادم في هذا المركز منصة لدورات حلف الأطلسي التدريبية في مجال الأمن السيبراني.

وقال رئيس قسم السياسة السيبرانية في وزارة الدفاع الإستونية ميكل تيك إن “الخبراء أعدّوا بنية تحتية للعمل، ولكن ليس في إمكانهم التحكم بكيفية استخدام الناس الإنترنت في المنزل ولا بدرجة الأمان”.

وكشف تيك أن أحدث الهجمات الإلكترونية استهدفت قطاع الرعاية الصحية الإستوني ونظام التعريف الرقمي للهواتف المحمولة.

استباحة رقمية

أثرت الجائحة أيضا على عمل المراكز الإلكترونية نفسه، إذ تسببت بإلغاء دورات تدريبية ميدانية.

إلاّ أن مركز الدفاع الإلكتروني التابع للحلف الأطلسي مرتاح إلى الإقبال المتزايد على دورات الأمن السيبراني التي ينظمها عبر الإنترنت.

ومن بين هذه الدورات “مكافحة هجوم من الروبوتات” و”الموارد التشغيلية في مواجهة التهديد السيبراني” و”كيفية درء الهجمات والدفاع عن أنظمة تكنولوجيا المعلومات”.

ومنذ الأول من سبتمبر، حضر هذه الدورات 6411 شخصا، ويسعى المركز إلى بلوغ عتبة العشرة آلاف بحلول نهاية عام 2020.

وكان مركز الدفاع الإلكتروني أنشئ على إثر سلسلة من الهجمات الإلكترونية البالغة التطور والإتقان على مواقع إلكترونية إستونية عام 2007.

وأعلنت حركة الشباب الروسية “ناتشي” الموالية للكرملين مسؤوليتها عن الهجمات آنذاك.

وقال وزير الدفاع الإستوني يوري لويك إن بلده يواجه اليوم “تدفقا متواصلا للهجمات” التي يتطلب التصدي لها عملا مستمرا.

لكنه أكّد أن وضع إستونيا “جيد إلى حد ما” لأنها كانت تملك الوقت الكافي للتعلم من التجارب السابقة.

وأضاف “لقد عملنا بجد لتأمين تحصين شبكات الكمبيوتر من الاختراق وتشفير الاتصالات، سواء أكانت اتصالات عسكرية أو مدنية”.

ورأى أن “إلحاق الضرر بإستونيا أصعب نسبيا مقارنة بالكثير من البلدان الأخرى التي قد لا تكون معتادة على العمل من خلال الفضاء الإلكتروني ولم تولِ اهتماما كبيرا للدفاع السيبراني”.

إلاّ أن الوزير شدّد على أن كل هذا العمل لن يكون مفيدا ما لم يكن ثمة اهتمام بما سمّاه “النظافة الإلكترونية” الأساسية، ومن متطلباتها مثلا حماية كلمات المرور.

وشدّد على أن “هذا الأمر مهم للغاية ويجب تذكّره وخصوصا الآن، بعدما أصبح الكثير من الأشخاص يعملون من المنزل بواسطة الكمبيوتر”.

وختم قائلا “في المنزل، قد يتراخى المرء” في تطبيق إجراءات الأمن الإلكتروني، واصفا ذلك بأنه “خطأ فادح طبعا”.

إننا في زمن “الاستباحة الرقمية”، زمن قد تصبح فيه البيانات “أهم من الإنسان”.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةمع اقتراب المهلة النهائية.. استئناف المحادثات التجارية بشأن بريكست
المقالة القادمةترودو: إبرام صفقة للحصول على 76 مليون جرعة من أول لقاح كندي ضد “كورونا”