التكيّف مع الأزمة، أو كما عبّر عنها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «بكرا بيتعوّدوا»، هو الظاهرة الأبرز في السنوات الأربع الماضية. فقد كان لافتاً، أن زخم الانتفاضة في مواجهة الأزمة، انقلب سريعاً إلى واقع لا يمكن مواجهته. هكذا سقطت الأسر بحثاً عن حاجات أساسية كالغذاء والاستشفاء والطاقة. فرض المجتمع على نفسه سلوكاً قهرياً للهروب من مواجهة الوقائع نحو الانسجام مع الحاجات التي استجدّت، أو تلك التي لم يعد لها محلّ. هكذا ظهرت الحاجة إلى خزنة للأموال، ومثلها الحاجة إلى الطاقة بعد انهيار معامل مؤسسة الكهرباء ورفع الدعم عن المازوت المستخدم في مولّدات الأحياء. أيضاً الحاجة إلى كميات أكبر من الليرات لشراء سلعة كنا نشتريها بورقة مالية واحدة… كلٌّ تخلق أو تطفئ نشاطاً في الاقتصاد. لا وظائف، فأصبح صرّافو الطرقات منتشرين كالنمل. بائعو الثياب المستعملة… هو تكيّف بمعنى سكوت المجتمع عما أوصله إلى الأزمة، وهو سكوت يصل إلى ذروته عند معاينة الهجرة التي تُعدّ سلوكاً تاريخياً لنموذج الاقتصاد السياسي في لبنان. أصبحت صناعة بمردود يكمن في تحويلات المغتربين وباستجداء الهجرة الوافدة للعمالة الرخيصة
جولة واحدة في شوارع بيروت كافية لمعاينة المشهد؛ مطاعم وملاهٍ ليلية وأسواق ممتلئة. للوهلة الأولى، يبدو أن الأزمة النقدية والمصرفية وقعت في دولة أخرى، إلا أن المشهد مضلّل لأنه يحصر المعاينة في فئة محدّدة تنتمي إلى طبقة اجتماعية واحدة بقدرات مالية تتيح لها التواجد في أماكن كهذه. هم مرئيون، بعكس فئات أخرى تنتمي إلى طبقات وسطى (دنيا) وفقيرة أو فقيرة جداً صاروا في مسار يوحّدهم في طبقة واحدة مسحوقة وعاجزة تمثّل النسبة الكبرى من المجتمع.
عندما تقع أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية في أي بلد، يصبح المسؤولون في السلطة أمام خيارين: تحمّل المسؤولية عبر خطط تعالج الأزمة من جذورها، أو التهرّب والتقاعس فتصبح الأزمة أمراً واقعاً. التهرّب يضع المقيم في لبنان، تلقائياً، أمام خيارين: رفض الواقع والتحرّك الاحتجاجي عليه، أو التكيُّف معه. لكن ما حدث في لبنان هو السيناريو الأسوأ: أولاً هروب أصحاب رؤوس الأموال مع كل ما نهبوه، توازياً مع انكفاء مطلق لزعماء الأحزاب الأساسية، والاعتماد المطلق على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في فرض التكيّف. حتى أصبحت هذه الظاهرة متمادية بأشكال متنوّعة: تكيُّف مع مشكلة الطاقة. تكيُّف مع إفلاس المصارف. تكيُّف مع هيمنة الدولار النقدي على النشاط الاقتصادي…
آليات التكيُّف في مجال الطاقة، تركّزت على المصادر البديلة من المولّدات وألواح الطاقة الشمسية. كان معظم المقيمين في لبنان، قبل انفجار الأزمة في عام 2019، يعتمدون بشكل رئيسي على مؤسّسة كهرباء لبنان التي وفّرت نحو 16 ساعة من الكهرباء يومياً، أما الساعات الـ8 المتبقية فكانت تُؤمَّن عبر المولّدات لمن يتحمّل مالياً الكلفة الإضافية. أما بعد الأزمة، فتراجعت خدمات مؤسّسة كهرباء لبنان حتى وصلنا إلى العتمة الشاملة. ثم أتى الفيول العراقي الذي غطّى ساعة أو اثنتين من الكهرباء يومياً، فأصبحت المولّدات مصدر الطاقة الأساسي وشبه الوحيد. وتزامن ذلك مع انخفاض هائل في قيمة أجور معظم المشتركين، ودفعهم إلى تعديل الاشتراكات مع أصحاب المولّدات بما يتلاءم مع مداخيلهم. وأُجبروا أيضاً على ترشيد استهلاكهم للطاقة. هكذا انفجر التهافت على الطاقة البديلة. فبحسب أوساط بلدية، تظهر عيّنة استطلاعية في قضاء بنت جبيل، أن نسبة تركيب الطاقة الشمسية تراوح بين 35% و50% من دون أن يعمد المشتركون إلى إلغاء اشتراكاتهم في المولّدات. أصحاب المولّدات، بدورهم، دمجوا إنتاج ألواح الطاقة الشمسية مع المولّدات للتوفير في الكلفة.
ما هو حجم هذا التكيُّف؟ بحسب أرقام للجمارك، فقد ارتفع حجم استيراد ألواح الطاقة الشمسية المخصّصة لتوليد الكهرباء من 8 ملايين دولار عام 2018 إلى 411 مليون دولار عام 2022، وارتفع أيضاً حجم استيراد البطاريات التي تعمل على تخزين الطاقة من 56 مليون دولار عام 2018 إلى 350 مليون دولار عام 2022.
وبينما تتّجه غالبية الدول المتقدمة إلى الاقتصاد غير النقدي عبر تركيز استخدام الهواتف والساعات الذكية إلى جانب البطاقات الائتمانية كوسيلة للدفع، صار المقيم في لبنان يبحث عن مكان لحفظ أمواله النقدية. استجدّت هذه المعضلة بعد انهيار المصارف وانعدام الثقة فيها ليظهر جانب آخر من التكيّف، هو خزنات النقود المنزلية على اختلاف أحجامها تبعاً للحاجة والقدرة المالية. يبدأ وزنها من 4.5 كيلوغرامات، ويصل بعضها إلى 1400 كيلوغرام. وهناك تفاوت هائل في أسعارها، من عشرات الدولارات إلى آلاف الدولارات. وأرقام الجمارك تظهر أيضاً زيادة استيرادها. قيمة مستوردات خزنات النقود ازدادت بنسبة 25% بين عامي 2018 و2022 لتبلغ 3.7 ملايين دولار. وتجارة الخزنات تحوّلت من زبائن كبار، مثل المصارف، إلى عملاء المفرّق، الزبائن الأساسيون فيها هم الأسر، بحسب ما قاله أحد أكبر الموزعين في بيروت. وأشار إلى أنه قبل الأزمة كانت أرباحه أسهل وأكبر نتيجة تعامله مع عدد محدود من الزبائن الكبار، أما بعد الأزمة فازداد عدد الزبائن بشكل ملحوظ مع هوامش ربح أقل.
إحدى نتائج الكارثة المالية التي أصابت العملة الوطنية والتحول إلى اقتصاد الكاش والدولرة الشاملة غير الرسمية حتى الآن، تحوّل كل مواطن إلى صراف يعدّ النقود التي لا تتسع لها جيوبه، ويحسب الفرق في تسديد فواتيره بالليرة أو بالدولار، سواء في السوبرماركت أو المطعم أو أي مكان آخر. أحياناً يبيع الدولار، أو يشتريه، ويتابع تطوّرات سعر الدولار والذهب والعملات المشفّرة، علّه يجد ملاذاً آمناً حتى لا تفقد أموال اليوم قيمتها غداً. كل هذا التعديل الجديد في سلوكيات المواطن يخلق بطبيعة الحال الحاجة إلى بضائع لم يكن يحسب أنه سيشتريها من قبل، مثل ماكينات عدّ الأموال التي ازداد الطلب عليها بعد الأزمة. وبحسب أرقام استيراد الآلات الرقمية التي تدخل ضمنها آلات عدّ النقود وكشف التزوير، فإن عدد الآلات المستوردة ازداد بنسبة 135% بين عامي 2021 و2022. وهذه الزيادة تفسّر الكم الهائل من الإعلانات الهادفة إلى ترويج منتجات عدّ النقود وكشف المزوّر منها.
ماذا عن السلع الفاخرة؟ يتوهم البعض أمام هذا المشهد القاتم، أن السلع الفاخرة كالسيغار أو اللوحات الفنية لم تعد مرغوبة كما في السابق. إنما هذا أيضاً تشخيص خاطئ للأزمة. فكما أن الطبقة المرئية المتواجدة في الأماكن الفاخرة، ليست عيّنة تمثل كل المجتمع، فإن السلع الفاخرة اللامرئية على رفوف الدكاكين ليست دليلاً على عدم توافرها، بل هي موجودة في أمكنة أخرى مخصّصة لفئات ضيّقة من المجتمع. بحسب أرقام الجمارك، بلغت قيمة السيغار الذي دخل إلى لبنان عام 2018 نحو 5.6 ملايين دولار وزادت قيمة واردات السيغار في عام 2022 إلى 6.8 ملايين دولار. ما يعني أن الأزمة لم تنعكس سلباً على استهلاك السيغار، سواء زاد عدد السيغار المستهلَك أو زادت كلفة استيراده.
أيضاً ارتفعت قيمة واردات اللوحات الفنية من 6 ملايين دولار عام 2018 إلى 22 مليون دولار عام 2022. وفي المقابل انخفضت نسبة استيراد الأبقار بنسبة 46% بين عامي 2018 و2022، أي من 382 مليون دولار عام 2018 إلى 177 مليون دولار عام 2022. ما يعكس انخفاضاً جذرياً في استهلاك اللحوم عند عموم المقيمين في لبنان، وذلك نتيجة عاملين رئيسيين، الأول تداعيات الأزمة المالية على مداخيل الأسر، والثاني التضخم العالمي الذي بنتيجته ارتفعت أسعار الأبقار 30%.
كذلك أُرغمت جميع الطبقات على التكيُّف مع الأزمة المالية الاقتصادية من أعلى الهرم إلى القعر. هناك من لديه القدرة المالية على شراء 1000 لوح طاقة شمسية أو 10 مولّدات وتحمل كلفة المازوت، وهناك من يقدر على شراء لوحين بالإضافة إلى اشتراك بسيط مع مولدات الأحياء. وهناك من ليست لديه القدرة على شراء طاقة لـ«لمبة» واحدة. وبينما بقيت طبقة المرئيين في المطاعم وأماكن السهر واليخوت على حالها، توسّعت طبقة اللامرئيين وازدادت فقراً، والنتيجة واحدة: التكيُّف حتى إشعار آخر!
هاربون ووافدون على عين السلطة: إدارة التهجير… بالإنكار
تتعامل أحزاب السلطة مع أزمة الهجرة بالنمط نفسه مع كل شيء آخر؛ هروب، إهمال وإخفاء. كأنها تعاني من رهاب الأرقام. فرغم أن مفاعيل الأزمة النقدية والمصرفية على المجتمع والاقتصاد واضحة للعيان، إلا أن هذه القوى اختارت أن تدفن رؤوسها في رمال الأزمة، لعجز يكتنز مصلحة خاصة. وباستثناء ما يرد من نتائج استطلاعات أجرتها إدارة الإحصاء المركزي عن الأوضاع المعيشية للأسر، لا تصدر أرقاماً رسمية عن هجرة اللبنانيين المتواصلة، ولا سيما تلك التي حصلت في الفترة التي سبقت الأزمة وأثناءها إلى اليوم. لا عن الهجرة منه، ولا عن الهجرة إليه، ولا عن الهجرة فيه.
الأشكال المختلفة للهجرة، كانت سمة أساسية في الموجات التي أصابت لبنان في مراحل مختلفة. في أحدث هذه الموجات، يميّز الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات»، شربل نحاس، بين الهجرة الخارجية (شباب لبناني)، والهجرة الوافدة (النسبة الكبرى للسوريين)، والهجرة الداخلية (النزوح من الأرياف إلى المدينة). يشير نحاس في ندوة أقامتها الحركة بعنوان «الدولة: إدارة أرض وسكان، واستشعار لشرعية واثقة»، إلى أن التغيّر الناتج من الهجرة بحركتها الثلاثية هذه، يفرض تحدّيات سياسية واقتصادية واجتماعية مرتبطة بتغيّر جذري في بنية الأعمار، بالتزامن مع قوى عاملة من الكفاءات المتدنية، بالإضافة إلى التغيّر في بنية المجتمع، وسط ظروف سياسية متصلة بمحاور جغرافية أساسية تربط مناطق لبنانية بمناطق سورية، ما يستدعي إعادة ترتيب الأنشطة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية من خلال التنظيم والإسكان والتجهيز، وهذه مسؤولية يمكن تحمّلها من خلال مشروع عام لتولّي السلطة بعيداً من سرديات الأفراد والأسر ونجاحاتهم وفشلهم في الهجرة.
هذه هي مفاعيل الهجرة كما يراها نحاس، لكن ما محفّزاتها؟ إنه التكيّف. التكيّف مع الأزمة، يعني أن المداخيل المحلية والنشاط الاقتصادي، كلّ ذلك لم يعد كافياً لتغطية الحاجات الفعلية للقوى العاملة، ولا سيما من مستوى معيّن، سواء من حاملي الشهادات أو من ذوي الخبرات. الأزمة فعلت ذلك، أو تركوها تفعل ذلك. لكن لماذا الهجرة الوافدة استمرّت؟ سؤال مشروع، لكنه ينطوي على بُعد تاريخي، إذ إن لبنان اعتمد تاريخياً على الهجرة الخارجية بالتوازي مع الهجرة الوافدة. السوريون نزحوا إلى لبنان، لأن لبنان أصلاً كان مركز عملهم. النشاط الاقتصادي المتولّد في لبنان كان يمنح فقراء الأرياف في سوريا دخلاً مقبولاً قياساً على مستوى ونوعية معيشتهم. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الهجرة الداخلية، أي على فقراء الأرياف في لبنان الذين نزحوا بحثاً عن عمل في المدينة حيث يتركّز النشاط الاقتصادي ومعها تركّزت الكثافة السكانية.
والآن، يقول نحاس: «إذا أكملنا في المسار الحالي، ومع ضمور نسبة الشباب اللبناني، وضمن فرضية استمرار المسار الحالي بلا إدارة مسؤولة، يمكن تقدير بنية هرم السكان في عام 2038 على النحو الآتي: يزداد عدد المقيمين غير اللبنانيين إلى 2.2 مليون نسمة، منهم 1.9 مليون سوري، في مقابل انخفاض عدد المقيمين اللبنانيين إلى 2.5 مليون. في المقابل كان عدد المهاجرين في عام 1970 يبلغ نحو 1.5 مليون، وعدد اللبنانيين المقيمين نحو 2.1 مليون، وفي عام 1990، رغم الحرب، ازاد عدد اللبنانيين المقيمين، وارتفعت نسبة المهاجرين أيضاً. أما في عام 2018 فبدأ العدد السكاني ينقص بحكم الهجرة وتغيّر البنية العمرية، وارتفعت نسبة المقيمين غير اللبنانيين بشكل أساسي نتيجة الأزمة السورية.
هو عدد ألواح الطاقة الشمسية التي تم تركيبها بين مطلع 2022 ونهاية حزيران 2023. احتُسب هذا العدد على أساس قدرة ألواح الطاقة الشمسية في الفترة المذكورة، والتي تراوح بين 525 واط/ذروة و555 واط/ذروة، أي بمعدل 540 واط/ذروة للوح الواحد، وقدرة إنتاج الطاقة الشمسية المركّبة في لبنان في الفترة نفسها والتي تُقدّر بحسب المركز اللبناني لحفظ الطاقة بنحو 793 ميغاواط/ذروة
67,778 سيارة
بين 20 و30 ألف دولار هي كلفة باقات مصمّمة خصيصاً لرحلات سياحية من لبنان إلى دول أوروبية (إسبانيا، فرنسا وإيطاليا)، والتي تشهد نمواً لافتاً منذ فترة ما بعد الأزمة بحسب الأمين العام لنقابة أصحاب مكاتب السفر والسياحة، ريمون وهبة. لكن ماذا عن الطبقة التي تشكل النسبة الكبرى من المجتمع؟ يجيب وهبة مشيراً إلى أن «المقصد الأساسي للمسافرين اللبنانيين هو تركيا وتحديداً بودروم ومرماريس وإنطاليا، وشرم الشيخ في مصر، وقبرص، حيث الأسعار مقبولة والكلفة تراوح بين 400 أو 500 دولار»، لافتاً إلى أن «أعداد اللبنانيين الذين يقصدون دول الجوار للسياحة، وخصوصاً تركيا، انخفض مقارنة مع العام الماضي». ويقول إن «الحركة في العام الماضي سجّلت 55% مقارنة مع ما كانت عليه قبل الأزمة في عام 2019». وعن الرحلات إلى الدول الأوروبية قال وهبة إن «زيارتها تتطلب الحصول على تأشيرة دخول التي لا يقلّ سعرها عن 150 دولاراً، ما يحدّ من جاذبيتها للبنانيين في الظروف الحالية».
نجيب عيسى: كبار السن وعمالة رخيصة