طوال السنوات الثلاث الماضية كان هناك خطاب واضح يربط بين ودائع الزبائن وبين توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، وبدوره كان الحاكم يتّهم الدولة بأنها موّلت نفسها من خلاله. سلسلة الربط هذه لم تكن بريئة، بل كانت خبيثة، إنما لم يكن في مقابلها خطاب واضح يعيد رسم ما هو واضح قانوناً لجهة فصل مسؤولية المصارف تجاه الودائع عن علاقتها مع مصرف لبنان
تحاول المصارف بشتى الطرق التنصّل من تحمل مسؤولية خسائره. لم يكن الاستيلاء على المال العام سوى ممارسة مستمرّة منذ نهاية الحرب الأهلية. ولم تكن تقدر على القيام بذلك، لولا تنظيم هذه العملية من قبل مصرف لبنان. أما الصندوق السيادي، فليس سوى نتاج العلاقة نفسها رغم أنه يُطرح لتوزيع الخسائر التي نتجت أيضاً من هذه العلاقة. ومن نتاجها أيضاً زجّ ودائع الزبائن في أتون عملية تبديد العملات الأجنبية التي حصلت بإشراف مصرف لبنان تحت أعين قوى السلطة. بهذه الخلفية وفي سياق توزيع الخسائر المحققة في ميزانيات المصارف ومصرف لبنان، طُرح الصندوق السيادي أكثر من مرّة لتجنيب المصارف دفع الثمن المناسب.
وعلى هذا الأساس جرى ترويج فكرة أن «الهيركات» أو الاقتطاع من الودائع هو خيار لا يقابله إلا خيار ثانٍ يموّل هذه الخسائر من المال العام، ويتم ذلك عبر صندوق سيادي يستولى من خلاله على الأملاك العامة. ولتجنّب خضّات شعبية مناهضة للخصخصة، ظهرت طروحات من نوع أنه ليس بالضرورة أن يتملك الصندوق السيادي المؤسسات العامة وأراضي الدولة، بل أن يضمّها ويحسّن إدارتها لتحقيق إيرادات كافية تموّل الخسائر. هكذا بدا كأن حرمان الخزينة من إيرادات هذه الأملاك على مدى سنوات عدة لا يصنّف من صنف الخصخصة! لكن القصّة الفعلية ليست هنا فقط، بل في محاولة الطمس التي تقوم عليها سردية الربط بين الودائع ومصرف لبنان والخزينة العامة. فما هو سائد قانوناً، هو أن ودائع الزبائن هي من مسؤولية المصارف وحدها، وتقع مسؤولية مصرف لبنان في الجانب التنظيمي لهذا القطاع. لذا، فإن أي نقاش حول توزيع الخسائر لا ينطلق من مسؤولية المصارف الائتمانية تجاه المودع وفصلها عن علاقة المصارف بالبنك المركزي، هو نقاش يصبّ أولاً وأخيراً في خانة الخصخصة لطمس ارتكابات المصارف ومصرف لبنان.
يوم استخدمت المصارف 80% من أموال المودعين في توظيفاتٍ لدى مصرف لبنان وديون للدولة، اتخذت القرار منفردة ولم تستشر أصحاب الأموال. أصلاً، في القانون هي تتملك الوديعة وتوظّفها وفق إرادتها وحدها لذلك تتحمّل وحدها مخاطر هذه الوديعة. لكن المصارف كانت تعلم بأن الطرف الذي توظّف لديه الأموال، أي مصرف لبنان، يعاني من عجز في ميزان المدفوعات ويسدّ هذا العجز من خلال الأموال التي توظّفها لديه المصارف، أي أنه يبدّد الدولارات. إذاً، أساءت المصارف إدارة أموال المودعين حين لعبت رهاناً بهذه الأموال طمعاً بفوائد خيالية جنتها من توظيفات الأموال لدى مصرف لبنان. لا المودع شاركها الرهان ولا استفاد من أرباحها، باستثناء قلّة من كبار المودعين هي أصلاً شريكة في العلاقة بين قوى السلطة وقوى المصارف. ومع وقوع الانهيار وعدم قدرة المصرف المركزي على سداد ديونه للمصارف، قرّر طرفا اللعبة، أي مصرف لبنان والمصارف، التملّص من مسؤوليتهم عن الخسائر وتحميلها للمودعين أو للدولة.
فعندما انكشفت اللعبة، لجأت المصارف إلى فرض قيودٍ غير مسبوقة على حسابات الزبائن بالدولار والليرة وشدّدتها تدريجاً إلى حدّ منع السحب بالدولار وتحديد سقفٍ للسحب بالليرة، من دون أي سند قانوني. بهذا المعنى، ضربت المصارف أصل المفهوم الحاكم لعلاقتها بالمودع وهي بحسب المحامي علي عباس «مبنية على قانوني النقد والتسليف، والعقود والموجبات على النحو الآتي: هي علاقة تعاقدية يتحمّل بموجبها المصرف مسؤولية ائتمانية تجاه المودع. يحفظ له وديعته ويردها له حينما يطلبها المودع في أي وقتٍ كان وبالعملة المودعة فيها». ويشدّد عباس على أن «لا ذنب للمودع باستثمارات المصارف الخاطئة لوديعته ولا بعلاقتها بمصرف لبنان، كون تعامله معها كمودع لا كمستثمر».
في هذا السياق، يعدّ تعسّف المصارف وتقييد حركة السحب والتحويل خرقاً لقوانين النقد والتسليف والتجارة البرية والعقود والموجبات. صحيح أنها تلطّت خلف تعاميم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتعليمات جمعية المصارف إلا أن كل هذه التوجيهات وفق عباس «عرضة للإبطال أمام مجلس شورى الدولة لمخالفتها القانون وتجاوزها حدّ السلطة. إذ لا صلاحية للجمعية ولا للحاكم بتنظيم علاقة كهذه». وبالفعل حاول بعض المحامين الطعن بالتعميم 151، القائل بسحب الودائع بالدولار على سعر 3900 ليرة، فأصدر«الشورى» قراره بوقف التنفيذ، إلا أن المجلس سارع إلى التراجع تحت ضغطٍ سياسي وتدخل سياسي مباشر لتبقى القضية مفتوحة من دون اتخاذ قرارٍ نهائي وحاسم لغاية الآن.
وفي دفاعها عن نفسها تدّعي المصارف أنها كانت مُجبرة على إقراض المصرف المركزي، ما يصفه الباحث في الشؤون الاقتصادية والمالية محمد فاعور بـ«الكلام الفارغ والمتناقض مع أهم مبادئ الاستثمار القائلة بتنوّع التوظيفات وعدم حصرها في مكان واحد». أما وقد وقع التعثّر والإفلاس، فإن قانون النقد والتسليف يحدّد طرق المعالجة التي تبدأ بـ«الحجز على الأموال الشخصية المنقولة وغير المنقولة لأعضاء مجالس إدارة المصارف والمدراء أصحاب القرار فيها وسواهم، ممن يتحملون مسؤولية مباشرة. بعدها تخضع المصارف المتعثّرة للتصفية».
والمعالجات تبنى على مفاهيم أو أعراف متعارف عليها دولياً مثل «تراتبية الحقوق والمطالب» التي تشطب بالدرجة الأولى رساميل المصارف وتحمّل صاحب رأس المال الجزء الأول من الخسائر. لكن ذلك لن يكفي، بحسب فاعور، لإطفاء خسائر القطاع المصرفي المتراكمة «عندها فقط يصحّ الحديث عن التوزيع العادل للخسائر وليس قبل ذلك»، محذراً من أنه «على الدولة خلال عملية توزيع الخسائر أن تأخذ في الاعتبار حماية الطبقات ذات الدخل المحدود، والقطاعات الأساسية ممن يلقى على عاتقها مسؤوليات مستقبلية، وحماية الصناديق التعاضدية والضمان الاجتماعي، إضافة إلى سلم طويل من الأولويات».
في المحصلة، تعاملت المصارف مع المودعين كدروعٍ بشرية منذ عام 2019، وحاولت أن تظهر نفسها كأنها وسيط بين المودع ومصرف لبنان، بينما هي وسيط مالي يستقبل الودائع ويتحمّل المخاطر. لذا، فإن زعمها بتعرضها للغبن يمارسه بحقها مصرف لبنان والدولة بعدم سداد ديونهم لها، لم يتطوّر إلى اشتباكٍ جدّي نظراً للترابط العضوي بين المصارف والطبقة السياسية. هذه العلاقة هي التي حكمت تحميل المودعين الخسائر، وربط علاقتهم بالمصارف بعلاقة المصارف نفسها بالدولة بذراعيها السياسية والمالية.
ردّ الوديعة بكامل قيمتها
ثمة الكثير من القوانين التي تدعم حقّ المودعين المطلق في الحصول على وديعتهم بكامل قيمتها وبذات عملة الإيداع، وذلك بمعزل عن علاقة المصارف بمصرف لبنان وبما ارتكبوا سوية من توظيفات وعمليات على شكل هندسات وسواه، أدّت إلى تبديد الأموال. والأبرز في المواد القانونية هي تلك التي تشير إلى أن «كامل قيمة الوديعة». القيمة هنا محميّة من التقلبات في سعر الصرف، ومن التضخّم، ومن كل العوامل التي قد تطرأ على الأصل. فالمادة 307 من قانون التجارة البرية تمنح المودع الحقّ بالمطالبة باسترداد كامل قيمة الوديعة، أو جزء منها عند الطلب مباشرة بذات العملة التي أودعها لدى المصرف. والمبدأ نفسه كرّسته المادة 123 من قانون النقد والتسليف التي نصّت على أن تخضع الودائع للمادة 307 من قانون التجارة. وقد ورد في الدعوى التي أقامتها مجموعة محامين لإبطال تعميم مصرف لبنان رقم 151، أن المصارف ومصرف لبنان يخالفون، بسبب امتناعهم عن ردّ الوديعة، المواد 307 و701 و714 من قانون الموجبات والعقود والمادتين 123 و229 من قانون النقد والتسليف. فمصرف لبنان يتعدّى على صلاحية مجلس النواب ويحلّ محلّه لأن تطبيق المادتين 701 و702 من قانون الموجبات والعقود يلزم المصرف بتسليم الوديعة إلى المودع عند الطلب ومن دون تحديد ماهيتها، سواء كانت مبالغ مالية أم أسهماً أو ذهباً… وعملاً بأحكام المادة 711 من قانون الموجبات والعقود، «يلتزم المصرف بردّ الوديعة عينها وملحقاتها بالعملة عينها التي أودعت فيها».