التمييز بين الودائع: 30 مليار دولار فقط أموال “مشروعة”؟

يحذّر كثيرون، ومنهم مصرفيون وموظفون في المصارف، من تصفية أي مصرف أو إعلان إفلاسه وفق القانون 67/2، ويُرهبون المودعين بأنهم لن ينالوا سوى 75 مليون ليرة كضمانة لودائعهم (من مؤسسة ضمان الودائع). ويذهب هؤلاء إلى حدّ تسخيف فكرة مقاضاة المصارف. حتى أن أحد المصرفيين قالها صراحة “إن مقاضاة أي مصرف والحجز على أملاكه وموجوداته، لا يطال المساهمين ولن يُعيد اموال المودعين، لاسيما في حال تحويل إدارة المصرف وأعضاء مجلس الإدارة أموالهم إلى الخارج. وبالتالي، لا طائل من مقاضاة المصارف وتصفية أو إفلاس أي منها”!

قد يكون ذاك المصرفي قد لامس حقيقة انعدام جدوى مقاضاة المصارف اليوم، بعد سنوات من المماطلة وتأجيل الحلول وإخضاع الودائع لعملية تذويب، مع عدم تجاهل وجود وسائل تقنية أخرى للتعامل مع الوضع الحالي للمصارف، كالدمج ووضع اليد وغير ذلك من الأدوات القانونية التقنية. لكن ثمة طروحات أخرى يتبناها خبراء مال وقانون، كمدخل أساسي لعملية استرداد الودائع، وفي الوقت عينه يرفضها آخرون لتداعياتها الكارثية. ويتصدّر تلك الطروحات مسألة التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، فهل يمكن تطبيقها؟

بين الودائع المشروعة وغير المشروعة
يعدّد المحامي المتخصص في القضايا المالية كريم ضاهر، الأدوات القانونية التقنية التي يمكن اعتمادها في حالات مختلفة للمصارف، منها القانون 67/2 الذي يتيح كافة الوسائل لإنقاذ المصرف، وهذا لا يعني افلاس المصرف. والقانون 110/91 المتعلق بالمصرف العاجز عن استكمال أعماله، بالإضافة إلى المادة 208 من قانون النقد والتسليف، التي تجيز معاقبة المصرف المخالف لتعاميم مصرف لبنان ويعتمدها الأخير اليوم على 4 مصارف. ولكن تلك الإجراءات الثلاثة لا تكفي ما لم نجد حلاً متكاملاً وجذرياً للمصارف، على ما يقول ضاهر في حديثه إلى “المدن”. فقيمة الودائع التي من المفترض ان يتم استردادها تبلغ 90 مليار دولار. أما الأصول المحتسبة للمصارف وضماناتها فلا تزيد كثيراً عن 20 مليار دولار، ما يعني أن الفجوة لا يمكن ترميمها بسهولة.

من هنا، تبدأ الحلول -حسب ضاهر- من التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، إلى جانب خطوات عدّة. وذلك في سبيل تحديد قيمة الودائع التي يجب استردادها كاملة. وهناك ودائع هائلة غير مبررة وغير مشروعة، منها الحسابات التي لم يتم تحريكها، والتي هي dormant account وترجع لأنظمة عربية بائدة.

ويؤكد ضاهر أنه في حال تطبيق القانون اللبناني، وتحديداً المواد 90 و91 من ضريبة الدخل، التي تقول إنه في حال مرور مدة زمنية من 5 إلى 10 سنوات وأكثر، حسب الحالات، تعود نسبة 50 في المئة من قيمة الودائع في هذه الحسابات للدولة اللبنانية و50 في المئة للمصارف. لكن المصارف لا تستحق هذه الأموال إلا في حال قامت بإجراءات معينة وفق الأصول، منها إبلاغ الدولة وأصحاب الحسابات، وغيرها من الإجراءات. وحتى اليوم، لم يقم أي مصرف بهذه الإجراءات، ما يعني أن 100 في المئة من هذه الحسابات تعود للدولة اللبنانية. أما الأمر المفاجئ، فيعود إلى تقدير هذه الأموال بين 17 و20 مليار دولار.

وفي حال الدخول في عملية التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة والحسابات النائمة، حينها يمكن استرداد الودائع. ويلفت ضاهر إلى أن نسبة الودائع المشروعة تُقدَّر بين 20 و30 مليار دولار من أصل 73 مليار دولار. أما الباقي فودائع غير مشروعة، في إشارة إلى أن الفجوة الحقيقية لا تزيد عن 30 مليار دولار.

تداعيات كارثية
وفي مقابل ضاهر وما يمثل من الداعين للتمييز بين ودائع مشروعة وغير مشروعة، تقف الخبيرة القانونية المتخصصة في الشأن المصرفي، سابين الكيك، لتحذّر من الأمر، “المسألة ليست بهذه البساطة. فشطب ودائع يعني أن هناك قضية لا نهائية، وهناك تداعيات مالية ومصرفية كبيرة على لبنان. كما لا يمكن الإقرار بأن ثمة أموال غير نظيفة يتوجب شطبها. وهذا أمر يفتح الباب على عمليات محاسبة مع عدد من الدول والأجهزة الدولية، ثم من لديه سلطة تحديد شرعية الودائع؟

وتوضح الكيك في حديثها لـ”المدن”، بأنه لو تحدثنا نظرياً، إنطلاقاً من أخلاقيات التمييز بين الثروات، يمكن القول أن هناك ودائع مشروعة وأخرى غير مشروعة. لكن في واقع الأمر إن كل وديعة دخلت إلى المصرف هي وديعة مشروعة، وإلا فكيف دخلت إلى المصرف؟

المصارف التي نتحدث عنها من المفترض أنها ملتزمة بالقوانين المحلية والعالمية، وبمعايير الشفافية وغير ذلك، فكيف يمكن أن تكون الودائع لديها غير مشروعة وليست من مصادر موثوقة؟ تتساءل الكيك. وهنا نحن نفترض أن هناك أموالاً جرمية جنائية ناتجة عن جرائم. وفي هذه الحالة، لا يعود الأمر مرتبطاً بالمصارف إنما بالقضاء. من هنا السؤال، أين هي هيئة التحقيق الخاصة من كل تلك الملفات؟

ولا ترى الكيك بعملية التمييز بين الودائع وسيلة لاستعادتها، “إذ أن هذا الموضوع يضع المصارف ومصرف لبنان أمام حقيقة شديدة المرارة، مفادها أنهم كانوا يعلمون بمصادر الأموال القذرة وهم شركاء فيها. وهنا نتحدث عن أموال لهيئات ومنظمات وأشخاص معرّضين سياسياً (peps)، وأشخاص خارج البلد، يواجه بعضهم عقوبات أميركية.. ومع ذلك، تم استقبال أموالهم. وهذه حقيقة قاسية جداً.

قاعدة المشروعية
وإذ يذكّر ضاهر بأن الودائع غير المشروعة لا تقتصر على أموال الفساد وتلك الناتجة عن تبييض الأموال والمخدرات وغيرها، إنما أيضاً على أموال محيّدة عن الدولة التي أتت منها، وبعضها ما يعود لمتهرّبين ضريبياً في دولهم، ومنهم الهاربون من الأنظمة. ويرى أنه يجب إيجاد آلية تتيح لصاحب الوديعة إثبات مشروعيتها.. تؤكد الكيك أن هذا الطرح عكس المبادئ القانونية في لبنان، وهي التي تقول أن الودائع مشروعة بما أنها موجودة في النظام المصرفي الممتثل إلى المعايير والقوانين إلى حين يثبت العكس. أي أن من يدّعي أن الودائع غير مشروعة عليه أن يثبت عدم مشروعيتها. وحسب الكيك، كل الأموال الموجودة في النظام المصرفي هي مشروعة إلى حين إثبات العكس “وعلى من يدعي الواقعة إثباتها”.

بالمحصلة، وبعيداً عن النقاش حول أهيمة وجدوى التمييز بين الودائع المشروعية وغير المشروعة، يجمع خبراء على استبعاد عملية استعادة الودائع، ما لم يتم تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر بما يتناسب معها.

مصدرالمدن - عزة الحاج حسن
المادة السابقةتحرير الايجارات غير السكنية لبيعها مشروع قائم: من يعوّض على المتضررين؟
المقالة القادمة«بتكوين» تهبط إلى أدنى مستوى في شهرين وسط مخاوف انتخابية