دخلت الأزمة المالية عامها الخامس ولا شيء يُبشّر بقرب إنتهائها أو إنهائها بشكلٍ عادلٍ ومحق… والسبب: إمتناع مقصود عن التعامل الجدي مع الموضوع وتطبيق القوانين سعياً ربما إلى تكرار تجارب القوى الحاكمة والمتحكمة، أو المنظومة كما تسمى بصورة أشمل، بقضم الحقوق بالنسيان أو بمرور الزمن، وفي كلتا الحالتين الهروب من المسؤولية والتفلت من المساءلة والعقاب. وفي الحصيلة التنكر من أية مسؤولية عن الأزمة سواء لجهة نشوئها أو إندلاعها أو تفاقمها أو عدم معالجتها…
تختلف الجهات وتتعدد التفسيرات وإنما السبب واحد وهو غياب المسؤولية وشجاعة مواجهة الواقع والحقائق وتحمل التبعات المترتبة أياً كانت… وهنا تكمن أهمية توزيع الأدوار والمسؤوليات للدلالة والتذكير ولفت الإنتباه ليس إلا أملاً بأن لا تكون هذه الندوة كسابقاتها صرخة في البرية دون غدٍ موعود تتردد صداها بلا أثرٍ أو تأثير على مشهدٍ تتصدره ذئاب متمكنة ومطمئنة تنهش وتفترس نعاجاً مذعورة وراضخة سلمت بالقضاء والقدر قبل اليقين… وكأن الكلّ قد استسلم للقدر ولا قدرةَ لتغييرِ هذا الإعتقاد…
في ظل هذا المشهد القاتم والافق المسدود، ماذا يقتضي فعلُه؟ الاستسلام للواقع المرير والتسليم لمشيئةِ المتحكمين والمستفيدين؟ أو أنه يتعين علينا الصمود والتحمل والتحامل رغم إنسداد الأفق والعمل على المواجهة من خلال المحاسبة ومنع الإفلات من العقاب؟
أسئلة كثيرة نطرحها ونحن على دراية ويقين بأن الأجوبة متوفرة وشاخصة، والحلول ما زالت متاحة وممكنة رغم الصعوبات والمعوقات. إلا أنه ولسلوك هذا المسار الإصلاحي والتغييري، يقتضي أولاً بأول مواجهة الحقيقة والخروج من النكران بتوصيف صادق وعلمي للأزمة المالية والإقتصادية التي نتخبط فيها والتي أضحت اليوم إجتماعية ونظامية ومؤسساتية أيضاً، بفعل التسويف الحاصل والمراهنة على مرور الوقت. وبالتالي، تفويت الفرص الواحدة تلو الأخرى منذ ما يقارب الخمس سنوات العجاف. وهذا التوصيف يترافق حكماً مع ضرورة إجراء مقارنة علمية بين وضعنا هذا ووضعية بعض الدول التي واجهت أزمات مماثلة، وخرجت منها عاجلاً أو آجلاً أو ما زالت غارقة في براكينها لغاية تاريخه. ومنها على سبيل المثال إيسلندا وقبرص واليونان والأرجنتين وذلك، على سبيل الذكر والإستدلال لا الحصر.
لقد حان الأوان لكشف الحقائق وتحديد المسؤوليات فعلاً لا قولاً. وذلك، لمعرفة من يقف خلف تبديد المال العام وتراكم الخسائر في القطاع المالي، ومن تسبّب بهذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأوصل البلاد إلى هذا الدرك أملاً بالحؤول دون تكرار الأخطاء والتجاوزات عينها ولوضع حدّ لمسار الإفلات من العقاب.
مع كشف تلك الحقائق والأمور يضحى متاحاً إلزام الطبقة السياسية بالاعتراف بمسؤوليتها عن سوء إدارة الأموال العامّة والخاصّة، وتحمّل المسؤولية المترتبة عن ارتكاباتها بالتكافل والتضامن مع شركائها الماليين والمصرفيين. وعندها فقط يمكن الكلام عن تغيير وترشيد الحوكمة وإسترداد الثقة على الصعيدين المحلي والدولي بغية إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية، وحماية المجتمع بدلاً من إعادة إنتاج أوجه البؤس نفسها والأزمات المتكرّرة التي لا نهاية لها؛ لا سيما في ظل جهوزية الطبقة السياسية، ومن يدور في فلكها من مستفيدين ومتلطين، واستعدادها لتجديد نفسها والاستمرار كما لو أن شيئاً لم يكن، بعد أن تكون قد صفّت المجتمع وحمّلته الخسائر وبرّأت ذمّة المرتكبين وطوت صفحة المحاسبة إلى غير رجعة.
أولاً: إستعراض وتقييم للوضع
لا نخال أحداً قد يجهل أو يشكك بالفرضية والمعادلة القائلة بأن الأزمة النظامية والإقتصادية والمالية الراهنة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بموضوع الودائع وأزمة القطاع المصرفي، وذلك رغم أهمية الأسباب البنيوية والنظامية الأخرى التي تسببت أساساً بالإنهيار الحاصل وخسارة الودائع والأزمة المستفحلة. إلا أن الأمور لن تستقيم، ولا خروج من هذا النفق المظلم مع إستمرار حالة الإنكار الجماعية ورفض تحمل المسؤولية و/أو الخسارة ولو جزئياً من قبل فرقاء النزاع الأساسيين. وبالتالي، لا بد من التوقف تمهيداً عند وضعية كل فريق من فرقاء هذا النزاع الأربعة الأساسيين وأولهم من يشار إليها بالدولة وهم حقيقةً من أدار وأفلس الدولة على مدار ثلاثة عقود من الزمن، وثانيهم المصرف المركزي وثالثهم المصرفيون ورابعهم المودعون المتضررون وبالأخص لجهة تدرج المسؤوليات وتحمّل الخسائر، ومحاولات التفلت والتعطيل والتنصل وما نتج عنها من تفاقم للأزمة.
من المسؤول؟
لا بد من التوقف تمهيداً عند إدعاءات وإقتراحات كل فريق من فرقاء النزاع الثلاثة الأوليين الأساسيين. إلا أن الأمر الأهم يكمن في التراتبية والأولويات بحيث يقتضي البدء بتحديد ما هو مشروع من حقوق وودائع جديرة بالحماية. كما وبتحميل من يضعهم القانون في صدارة سلم المسؤولية أي المتعاقدين المباشرين وهم المصارف الممثلين بالإداريين والمساهمين كل ضمن حدود مسؤوليتهم. ومن بعدهم من شاركهم أو تواطأ معهم من مسؤولين سياسيين وإداريين؛ وسيما منهم من خالف و/أو تجاوز و/أو تقاعس باسم الدولة لمصالح خاصة غير مشروعة.
1) الدولة:
واهمٌ ومضللٌ من يعتقد أو يدعي أن الدولة «بريئة من دم الصديق» أي من أية مسؤولية بالنسبة للأزمة وتفاقمها ومتمتعة بحصانة تمنع محاسبتها أو تحميلها عبء التعويض و/أو إعادة التسديد.
إلا أن ما يجدر التوقف عنده هو أمران مهمان: الأول، وجوب التمييز بين الدولة من جهة وهي حسب التعريف القانوني: «مجموعة من الأفراد يُمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لنظام سياسي معين مُتفق عليه في ما بينهم يتولى شؤون الدولة…» أي مجموع المواطنين وسيما منهم من تضرر مباشرةً أو بصورة غير مباشرة من الأزمة؛ ومن جهة ثانية من تم تفويضهم أو فوضوا نفسهم بإدارة هذه الدولة وفق أجندتهم وهم المسؤولون. ومسؤوليتهم مباشرة و/أو غير مباشرة وفقاً للحال.
وإن ننسى لا ننسى أن قانون العفو الصادر بعيد الحرب الأهلية بتاريخ 28 آذار 1991 قد سمح لدويلات الأحزاب بتبييض صفحتهم السوداء والإستيلاء على دولة المؤسسات لإلتهامها وتحويلها إلى محميات طائفية ودوائر نفوذ من خلال ما بات يُعرف بالدولة العميقة.
بعد هذا التوضيح ولإغناء النقاش لا بد من تبيان بعض الأخطاء الجسيمة التي يمكن تحميلها إلى من أدار الدولة بسلطاتها الثلاث خلال ثلاثة عقود من الزمن.
1-1 المسؤولية المباشرة: فعل وتعمّد
1-1-1متسببات وقوع الأزمة
السياسات الإقتصادية والمالية: القائمة على رأسمالية متوحشة وإقتصاد ريعي غير منتج تسبب بتدمير وشبه إضمحلال للقطاعات المنتجة من زراعة وصناعة وحرف ومهارات، وقد جرى بنتيجته تحفيز القطاعات التي تتأثر بالظروف المستجدة وتؤمن نمواً غير مستدام، كما والإفراط في الإستهلاك من الصناعات والمنتجات الأجنبية بسبب الإنتاجية المحلية الضعيفة وعدم القدرة على المنافسة مع كلفة مرتفعة وسعر صرف غير واقعي؛ مع تقاعس الدولة بالقيام بمهامها ودورها الراعي. مما أدى إلى عجز تجاري كبير ومديونية وبطالة وهجرة أدمغة وتدمير للمجتمع والقيم الإجتماعية (عجز مستدام في المالية العامة إفراط في الإستدانة حلقة مفرغة).
إنهيار المؤسسات وتدميرها المقصود والممنهج خدمةً للزبائنية والمصالح الخاصة: لقد أمعن المسؤولون في تسخير مؤسسات الدولة والأموال العامة لمصالحهم الخاصة مع تضارب مصالح فاضح وصرف نفوذ واختلاس واستثمار الوظيفة وسواها من الأعمال والأفعال المحظورة والمعاقب عليها. كما وفي التوظيف السياسي والزبائني غير المجدي الذي إستتبع زيادة الإنفاق العام غير المجدي وغير المبرر وغير الفعال، الذي إستتبع بدوره حتمية الإقتراض لسدّ العجز والدخول في دوران الحلقة المفرغة والغليظة التي حرمت الدولة من الإمكانيات لتأمين خدمات عامة بديهية ذات مستوى وشاملة بسبب تضاؤل إيراداتها وتخصيص القسم الأكبر منها لخدمة الدين وتمويل القطاع العام.
وقد تضاعفت بنتيجة ذلك الخدمات الرديفة على حساب الدولة ومن مالها العام، مما عزز الإرتهان للزعماء الذين عززوا سطوتهم ونفوذهم من خلال الفساد والزبائنية. كما جرى تحفيز وتغطية التهرب والتهريب والاقتصاد الخفي أو الموازي (économie souterraine).
السياسات العامة والحوكمة غير الرشيدة: غياب أي رؤية أو خطة إجتماعية أو تنموية تساعد على تحسين أوضاع اللبنانيين وتنوع مصادر تمويل الدخل القومي وولوج درب الإنماء المتوازن والمستدام. نموذج إقتصادي هش قائم على تمويل الإستهلاك العام والخاص بواسطة الإستدانة والتحويلات. إقتصاد قائم على إعتبارات ظرفية تبدّلت بدءاً من العقد الثاني من القرن الحاضر وغياب تام لأي دراسات تحليلية لوقع الأثر الإقتصادي للتدابير والقوانين المعتمدة (Economic impact assessment)، كما وغياب الأرقام الموثوقة والمؤشرات والإحصاءات. المشكلة الأساسية في الدين العام في لبنان لا تكمن في الحجم الذي بلغه، بل في أساسه ومنشئه، والمعيار هو مجالات إستعماله إستعمالاً جيداً لزيادة الإنتاجية الإقتصادية التي ترفع مستويات المعيشة وتسمح في المستقبل في إيفاء الدين وإيجاد فرص إستثمار.
1-1-2مسببات تفاقم الأزمة:
عدم المبادرة الفورية إلى إتخاذ التدابير اللازمة لدى وقوع الأزمة وسيما:
عدم ضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) فوراً بتاريخ وقوع الأزمة، أو بتاريخ تكشف بوادرها (منتصف آب 2019)؛
عدم المبادرة إلى الإعتراف بالأزمة النظامية (systemic) وسيما في القطاع المصرفي والعمل على حلها بشتى الوسائل وبأسرع وقت؛
عدم وقف سياسة الدعم غير المبررة واستبدالها بمساعدات مختارة وفعّالة؛
عدم المبادرة لتفادي تفشي حالات شاذة تتعرض للحقوق بسبب الأوضاع الإستثنائية كتعليق موجب تسديد القروض وتعليق المهل وسواها من التدابير التي سبق وجرى إعتمادها في ظروف مشابهة في بداية ومنتصف الحرب؛
دم إعتماد وإقرار خطة تعافٍ متكاملة لحماية الحقوق، وإعادة إطلاق العجلة الإقتصادية وإعادة الثقة.
عدم المساءلة والمحاسبة ومعاقبة وتغيير المخالفين والمقصرين؛
عدم تطبيق القوانين وعدم إقرار تدابيرها التنفيذية والتطبيقية كما وآلياتها العملية. وأبلغ مثال هو عدم تطبيق القانون رقم 240 تاريخ 16/7/2021 الذي أخضع كل المستفيدين من دعم الحكومة بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2019 للتدقيق الجنائي الخارجي، كما ورفع السرية عنهم وعن حساباتهم، وفوض وزارتي العدل والمالية بوضع الآليات المناسبة في مهلة شهرين)؛
ناهيك عن قانون تعديل السرية المصرفية رقم 306/2022 (عدم صدور مراسيم تطبيقية )؛ والتدقيق الجنائي وتدابير مكافحة الفساد بقوانينها (28/2017؛ و83/2018؛ و175/2021؛ و189/2021؛ و214/2022؛ وإلخ) وقرار مجلس الوزراء رقم 17 تاريخ 12/5/2020؛
إحجام معظم القضاة عن ممارسة دورهم بما تمليه عليهم رسالتهم بذرائع متعددة؛
عدم التصدي لعمليات تذويب ما تبقى من ودائع لمصلحة قلة مرتكبة (تحاويل إلى الخارج + التلاعب بالعملة) وتأجيل الحلول إلى ما لا نهاية مع تيئيس مقصود للمواطنين.
1-2 المسؤولية غير المباشرة: تقاعس وتواطؤ
غياب أو تغييب الرقابة والمحاسبة على كل الصعد من (1) إدارية (ديوان المحاسبة، تفتيش مركزي ومجلس خدمة مدنية)؛ (2) وسياسية (مجلس النواب والهيئات الأكثر تمثيلاً والناخبين)؛ (3) وقضائية (تبعية عدد من القضاة وترغيبهم وإستفادتهم)؛ (4) ومالية مع مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان والمدراء العامين (إقتصاد ومال).
إستعمال وتسخير التشريعات والتدابير التنظيمية لأسباب ومصالح خاصة وفئوية، مما أدى إلى إستباحة المال العام وضرب مبادئ العدالة والشفافية والنزاهة.
التغاضي عن القيام بالإصلاحات المطلوبة أو بتطبيقها تجنباً للشفافية المتوخاة والمساءلة ونشر الوعي المواطني مما يؤثر على مصالح الطبقة السياسية الخاصة.
المساهمة في ضرب صورة لبنان ومصداقيته وجاذبيته وإفقاد الثقة به وبدوره.
2) المصرف المركزي
2-1 المسؤوليات والتجاوزات التي أدت إلى وقوع الأزمة:
إعتماد أساليب محاسبية غير نظامية وغير مألوفة وغير شفافة وقاتمة وإخفاء الخسائر (موجودات أخرى).
التفرد بالقرار من قبل الحاكم وعدم تطبيق قرارات المجلس المركزي وعدم إعتراض أعضاء المجلس أو تظلمهم.
الإفراط في إقراض الدولة وسدّ عجوزاتها بخلاف أحكام المواد 90 إلى 94 من قانون النقد والتسليف.
الولوج غير المبرر إلى الهندسات المالية السخية بهدف جذب الودائع من الخارج، كما وإنقاذ بعض المصارف «الصديقة» من الإنهيار بسبب سياساتها الإستثمارية المتهورة.
تثبيت لسعر الصرف لا يعكس قيمته الفعلية، وبكلفة باهظة أدت إلى تأجيل وتفاقم المشكلة بدلاً من حلها.
القيام بعمليات وهمية لتضليل السوق أو تحصيل عمولات وقائمة بمعظمها على إحتيال محاسبي (اي ما يسمى بـsham transactions or masking the tape or impression of false trading).
2-2 المسؤوليات والتجاوزات التي أدت إلى تفاقم الأزمة:
الخطأ الفادح في تسيير الاعمال والإخلال الفاضح في مهمة المحافظة على النقد اللبناني والاستقرارالاقتصادي وسلامة أوضاع النظام المصرفي (المادة 70). ومن جملة تلك الأخطاء:
عدم المبادرة الفورية إلى إتخاذ التدابير اللازمة والضرورية لتجنب حالة الهلع (bank run) وإستنسابية المصارف فور إندلاع الأزمة في 17/10/2019، ومنها منعها من الإقفال لمدة أسبوعين.
عدم تطبيق أحكام القوانين النافذة فور توفرّ الشروط والظروف، وسيما عند ثبوت توقّف أحد المصارف عن الدفع، أو في حال تبيّن أنه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة أعماله (القانون رقم 2/67 والقانون رقم 110/1991 كما والمادتين 134 و140 من قانون النقد والتسليف)، وفقاً للحال، إستنزاف الودائع والإضرار بالمصارف والإقتصاد حمايةً لقلة وإفلاتها من المساهمة في الخسائر والمساءلة عن أفعالها أو تقصيرها.
تجاوز حدّ السلطة وإستصدار التعاميم والإجراءات «الاستثنائية» غير الشرعية، ومنها منصة صيرفة وتفاوت أسعار الصرف التي حملت العبء والخسارة إلى الحلقة الأضعف اي المودعين الصغار والمتوسطين.
عدم محاسبة المصارف التي لم تلتزم بتلك التعاميم وسيما منها التعاميم رقم 154 (الإجراءات الإستثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف في لبنان) و158 و166 و167، والقرار الوسيط رقم 13587القاضي بعدم فرض أي نوع من العمولات الجديدة على حسابات الودائع لم تكن مفروضة قبل 17/10/2019. وكان يقتضي تطبيق المادة 208 من قانون النقد والتسليف لردها ولم يطبق إلا على بعضها لأسباب مجهولة.
تقصير لجنة الرقابة على المصارف بالقيام بمهامها وعدم قيام كل من حاكمية مصرف لبنان ومجلس الوزراء بإتخاذ التدابير المناسبة بحقها.
السماح للمصارف بقبول تسديد العملاء الأقساط أو الدفعات المستحقة بالعملات الأجنبية الناتجة عن قروض التجزئة كافة بما فيها القروض الشخصية وذلك بالليرة اللبنانية على أساس السعر المحدد لتعاملات مصرف لبنان مع المصارف (أي 1507ليرات للدولار الواحد) بخرق فاضح لمبدأ المساواة، كما ولمبدأ حق الملكية الخاصة المنصوص عنهما في الدستور.
التسبب بتحويل المصارف اللبنانية إلى صناديق cash والإقتصاد إلى اقتصاد نقدي بدائي (cash economy) يشكل ملاذاً آمناً لمبيضي الأموال والمتهربين من وجه العدالة؛ مما من شأنه تعريض لبنان لخطر وضعه على اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة من قبل مجموعة العمل المالي (FATF).
3) المصارف التجارية:
أو بالأحرى، المصرفيون. وهم فئتان: المساهمون المحدودة مسؤوليتهم بقدر مساهمتهم من جهة، والإداريون (أي رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى مفوضي المراقبة وسائر الاشخاص الذين لهم حق التوقيع) الذين يتحملون، وفق القانون، التبعية والمسؤولية الجزائية والمدنية على ذمتهم الخاصة. فهؤلاء يرفضون تحمل أية مسؤولية لأي جهة كانت سواء لجهة إعادة رسملة المصارف أو لجهة المساهمة في تعويض المودعين المتضررين بحجة تحميل الدولة بمفردها مسؤولية ردّ الودائع حتى لو سوقوا خدعةً بثلاثيتهم الذهبية دولة/مصرف لبنان/مصارف مع تحييد «شعاري/شعبوي» كاذب للمودعين الذين تم تحميلهم بمفردهم من قبل هؤلاء منذ ما يزيد عن الأربع سنوات تدني قيمة ودائعهم وحجزها وخسارة قيمتها، ناهيك عن العمولات الباهظة والإستنسابية المفروضة عليهم زوراً. هذا، ومع العلم واليقين بأن تحميل الدولة المسؤولية بالأولوية على أساس المادة 113 من قانون النقد والتسليف (تغطية عجز مصرف لبنان) وإلزامها بردّ الودائع من خلال أصولها، كما يبغون ويشتهون، من شأنه أن يُخرجهم نهائياً من دائرة الخطر والمسؤولية والمساءلة والمحاسبة بالنسبة لأعمالهم وقراراتهم ويحررهم من أي موجب لإعادة الرسملة أو لتحميل ذمتهم الخاصة جزءاً من الخسائر والتعويضات.
بالفعل، هذا المنحى المطروح والمروج له بقوة في معظم الإعلام المأجور أو الذي تم ترويضه وبدفع وغطاء قضائي مميز ومشبوه، يقضي بتحميل الدولة مسؤولية عجز وديون مصرف لبنان تجاه المصارف عملاً بأحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف؛ ما من شأنه أن يضع المودعين بمواجهة مباشرة مع الدولة ويعفي المصارف (وبالتالي المصرفيين) من أية مسؤولية بفعل تذرعها بأنها غير متوقفة عن السداد، وقادرة، إذا تحملت الدولة المطلوبات، من تأمين ملاءتها ومتابعة أعمالها. وبنتيجة ما تقدم سوف يُضرب عرض الحائط بمبدأ تراتبية المسؤوليات (Waterfall) الذي تم التوافق عليه مع صندوق النقد الدولي. وهو الذي يُعتمد لتحديد المسؤوليات وتوزيعها بصورة عادلة ومحقة كما ولملاحقة المسؤولين عن الإنهيار بهدف شطب ما يمكن شطبه من ودائع غير مشروعة أو غير محقة، وإسترداد ما يمكن إسترداده من أصول وأموال لإعادة تكوين الودائع، ووضع حدّ نهائي لحالة عدم المحاسبة والتفلت من العقاب. بمعنى آخر، سوف يخسر المودعون في هذه الحالة ضمانة أساسية وكتلة مهمة مما يمكن تحصيله من أصول وقيم مادية لإسترجاع الودائع.
سرد موجز وغير حصري لتجاوزات ومسؤوليات المصارف
طمع المصارف بالفوائد المغرية وعدم التزامها بالتدابير الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها.
تضليل المودعين والإحتيال عليهم لحثهم على إستقدام ودائعهم و/أو الإستثمار بالأسهم التفضيلية والسندات المرؤوسة (subordinated loans) وبغياب أي إلتزام بالقواعد والمعايير.
عدم الإلتزام بالتدابير والأنظمة الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها، بِما يُفترض أن لا تزيد التوظيفات لدى مجموعة ماليَّة واحدة One Obligor عن 15 إلى 25% من رأسمال المصرف أو أمواله الخاصة، كحد أقصى للإنكشاف أو تحمل مخاطر الإئتمان تجاه مقترض واحد. وتشترك هنا في المسؤولية شركات التدقيق المكلَّفة مراقبة حسابات مصرف لبنان و/أو المصارف، والتي تغاضت عن تجاوز المصارف السقف المعقول للتوظيفات. كما ولم يعترضوا على عَدم صحَّة الأرقام والميزانيَّات والأخطار المحدقة بسبب العجز في إمكانية إيفاء المتوجبات.
مخالفة أحكام المواد 156 إلى 161 من قانون النقد والتسليف لجهة مراعاة، في استعمال الاموال التي تتلقاها من الجمهور، القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه، كما وتتبع استعمال الاعتمادات التي تمنحها لتتأكد على قدر المستطاع من أن الاموال التي سلفتها لم تنحرف عن الغاية المصرح بها؛ وعليها بصورة خاصة أن توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها.
الضغط على المسؤولين لإجهاض الخطط الإصلاحيَّة لا سيَّما تلك التي اعتمدتها حكومة الرئيس دياب بتاريخ 30 نيسان 2020، كما وتلك التي تم طرحها تكراراً من قبل حكومة الرئيس ميقاتي. كما وتمويل حملات تضليل إعلامية واسعة النطاق.
الإستنسابية في سحب وتحويل الودائع المحجوزة بتاريخ 17/10/2019 وإعتماد التفاضلية مع ترجيح المصالح الخاصة كما والاساليب الإحتيالية المتعددة.
إعتماد سلّة عمولات باهظة وإستنسابية مع تهديدات ملازمة للمودعين المحجوزة ودائعهم.
الشك والإشتباه بعمليات إستغلال المعلومات المميزة (insider trading) لمصالح خاصة.
تساهل في تغطية مخالفات وعدم الامتثال للمعايير الدولية مع تواطؤ فاضح مع بعض المودعين والموظفين العامين المخالفين.
الاستفادة من الهندسات المالية والمخالفات السالف ذكرها لتوزيع أرباح وعمولات ومكافآت على نفسهم وأعوانهم وشركائهم.
التواطؤ و/أو التسهيل في عمليات تسويق الشيكات المصرفية والمضاربة على العملة وsayrafa وتسديد القروض بأقل من قيمتها؛ مما سمح لهم أو لمتولي الإدارة بتحقيق أرباحٍ طائلة على حساب مصالح المودعين والعملاء الآخرين.
4) المودعون:
مهما تباينت الآراء أو إختلفت النظريات، لا مفرّ من التسليم بان الحلقة الأضعف والمتضرر الرئيسي هم المودعون الذين فقدوا جنى عمرهم وسبل حياتهم الشريفة. فالمودع هو الذي «أودع لدى المصرف، وفقاً للمادة 307 من قانون التجارة، على سبيل الوديعة (والأمانة)، مبلغاً من النقود ويجب يرده بقيمة تعادله دفعة واحدة او عدة دفعات عند اول طلب من المودع او بحسب شروط المهل او الاعلان المسبق المعينة في العقد». ولا يمكن بالتالي إشراكه بالمسؤولية مبدئياً أو حرمانه من حقه عملاً بأحكام الدستور (الفقرة (و) من المقدمة والمادة 15) والقوانين المرعية والمواثيق الموقعة والنافذة.
إلا أن هذه الحقيقة ليس من شأنها أن تحجب بالمقابل واقع جنوح بعض المودعين لإستعمال القطاع المصرفي اللبناني كملاذ آمنٍ وأمين لودائعهم وعملياتهم غير الأمينة وغير المشروعة. كما ولا مجال للإنكار والتنصل أن الكثير من المودعين قد إرتضوا وضع ودائعهم في لبنان رغم المخاطر النظامية المحدقة بسبب نسبة الضرائب العالية المبررة بمؤشر المخاطر (Risk Index). لذا، وعندما قد يحين وقت توزيع المسؤوليات والتضحيات من المفيد أن يرتضي هؤلاء بتحمل بعضها من خلال تسوية على الجزء غير القانوني والنظامي من الودائع – وسيما منها جميع الاموال النقدية المودعة في المصارف ومؤسسات الاعتماد والتسليف الساقطة بمرور الزمن عملاً بأحكام المادتين 90 و91 من قانون ضريبة الدخل (dormant accounts)؛ أو إسترداد الجزء من الفوائد المحققة التي تتخطى المعدّل العام (ليبور) المرجعي (libor) فضلاً عن إسترجاع كل ما تم تخصيصه خلال تلك المدة من عمولات ومكافآت وأرباح وتخصيصات من جراء الهندسات المالية (clawback).
كما يقتضي أيضاً إشراك فئات أخرى مستفيدة من المجتمع في عملية «المساهمة التضامنية» وعلى وجه الخصوص الذين إستفادوا من الوضع المستجد مع إنهيار العملة الوطنية وإعتماد عدة أسعار صرف للدولار الأميركي وتدابير تنظيمية مسهلة، بتحقيق أرباح ملحوظة على حساب الودائع والمودعين مع ما يستتبع ذلك من نتائج لجهة ضرب مبدئي العدالة والمساواة المصانان دستورياً. بالإضافة إلى الذين تمكنوا من المودعين المقيمين من إخراج ودائعهم المحجوزة بعد 17/10/2019 وإيداعها في الخارج لتحقق لهم مكاسب وأرباحاً ملحوظة التي يتعين تكليفها بنسب ضرائب بنسب أعلى تسمح بتحقيق بعض العدالة.
(*) أستاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامة
ندوة معهد الدراسات الحقوقية للعالم العربي في جامعة القديس يوسف
الجمعة 24/5/2024
المداخل الرئيسية للتغيير والإصلاح كتمهيد لردّ الودائع المشروعة
إن المداخل الرئيسية لأي تغيير وإصلاح يتيح إعتماد خطة موضوعية وأمينة لإعادة الإنتظام المالي وهيكلة المصارف وبدء تسديد الودائع المشروعة، يمكن إختصارها بالعناوين الإجرائية والعملية التالية:
أ- إنتخاب رئيس جمهورية وتعيين حكومة إختصاصيين مستقلين فعليين ذوي كفاءة عالية ونزاهة ثابتة؛ يتم إختيارهم من بين الوجوه المعروفة في الداخل وبلاد الإغتراب ليعينوا في كل وزارة وفق إختصاصهم وعملاً بالأحكام الدستورية دون إعتبارات طائفية أو مذهبية أو حزبية أو فئوية.
ب- يقوم مجلس النواب بالتعديلات الدستورية اللازمة والسريعة لمنح الحكومة الجديدة صلاحيات تشريعية تسمح لها، على أساس بيانها الوزاري وخطتها الإنقاذية، بإتخاذ التدابير وإقرار القوانين اللازمة في الحقلين الإقتصادي والإجتماعي مع حفظ كافة صلاحيات المجلس النيابي ورئاسة الجمهورية بالنسبة للمسائل ذات الصلة بالسياسة الخارجية والإقتراض.
ت- تتعهد الحكومة الجديدة في بيانها الوزاري وتلتزم، تحت طائلة طرح الثقة بها في نهاية السنة الأولى من عهدها، بإستكمال التشريعات والتنظيمات الآيلة إلى إصلاح الوضعين المالي والمصرفي ومكافحة الفساد وإستعادة الأموال المتأتية عنه؛ كما وبضمان الودائع المشروعة مع السعي الجدي إلى إعتماد خطة موضوعية وواقعية لإعادة التسديد مع ترجيح حسابات الصناديق الاجتماعية والنقابية والمهنية. كما وتلتزم أيضاً بتأمين شبكة أمان إجتماعية (social safety net) للتخفيف من النتائج التي قد تترتب نتيجة الإصلاحات البنيوية والهيكلية.
ث- إعادة وصل ما انقطع مع صندوق النقد الدولي والدول الصديقة من خلال إستكمال تنفيذ الشروط التي حددها الإتفاق الأولي على مستوى الموظفين (Staff-Level Agreement).
ج- رفع السرية المصرفية بالكامل والتدقيق في كل الحسابات المصرفية لتحديد الودائع المؤهلة للحماية والإسترداد بعيد تطبيق خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ بحيث يتم التمييز بين الودائع ذات المصادر النظيفة والشرعية/القانونية والودائع غير الشرعية/القانونية التي تغطّي مالاً قذراً أو مكتسبا بصورة غير مشروعة أو من خلال مخالفة القوانين المرعية ولا سيما الضريبية والمالية والتجارية منها. مع حفظ حق المتضررين بإجراء تسويات وفقاً للآليات التي تلحظها القوانين المرعية الإجراء (وسيما القانونين رقم 83/2018 و214/2022).
ح- الإنتهاء من التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي والمصارف التجارية لتحديد المسؤوليّات وكشف الجرائم المالية وغير المالية؛ مما قد يساعد على التحقيق في العمليات المصرفية المشبوهة الناتجة عن أو المرتبطة بعمليات إفلاس احتيالي أو إساءة أمانة أو اختلاس أو غش وإحتيال أو استغلال للمعلومات المميزة و/أو إفشائها أو تبييض أموال أو عمليات تهرّب ضريبي. كما والتحقيق بالتحويلات المصرفية التي تمّت بعد 17 تشرين الأول 2019، بالإضافة إلى تسديد ديون القطاع الخاص والاستفادة من تعدد سعر العملات. ناهيك عن تحديد الحسابات التي استفادت من الفوائد والأرباح والمكافآت المُضخّمة منذ وقوع الحساب التجاري بعجز، وذلك لإجراء التخفيض والشطب والإسترداد (clawback) لكل ما هو غير مشروع و/أو غير مستحق قبل أي عملية استرداد للودائع.
خ- وبالموازاة الشروع في تنفيذ كل من خطّة مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة التي أقرّتها الحكومة اللبنانية عام 2020 وقرار مجلس الوزراء رقم 17 تاريخ 12/5/2020 مع خطة العمل التي اعتمدتها الخطة؛ كما والقانون رقم 240 تاريخ 16/7/2021 الذي أخضع المستفيدين من دعم الحكومة للتدقيق الجنائي الخارجي.
د- تعليق حكماً بين تاريخ 17/10/2019 وتاريخ منح الثقة للحكومة الجديدة، جميع المهل المحددة لممارسة حق ما أو القيام بإجراء ما تحت طائلة السقوط أو الترقين أو البطلان والمنصوص عنها في القوانين والأنظمة والأعمال الإدارية والقرارات القضائية.
ذ- حوكمة جديدة للقطاع المالي مع (i) تعيين هيئة مصرفية مستقلّة لقيادة خطّة إعادة هيكلة المصارف بعد إخضاع حاكمية المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف واللجان والهيئات الأخرى الناظمة والمراقبة للمحاسبة عن التقصير في دورها الرقابي والتنظيمي والعقابي. كما و(ii) تعديل قانون النقد والتسليف لحلّ تضارب المصالح بين واضعي السياسات المالية وواضعي القواعد الاحترازية لتدارك المخاطر المالية.
ر- تغيير إدارات المصارف الحالية والحجز على أصولهم إحترازياً وتجميدها وإسترجاع ما تم التنازل عنه أو تحويله منذ 17/10/2019 أو بانتظار إقرار خطّة إعادة الهيكلة وذلك، وفقاً لأحكام القانون رقم 2/1967 نظراً لكونها في حالة تخلّف عن السداد.
ز- الإسراع بإقرار اقتراحي قانون استقلالية القضاء العدلي والقضاء الإداري على نحو يضمن استقلالية فعلية للهيئات القضائية وفق المعايير الدولية، حيث لا محاسبة ولا مكافحة للفساد من دون قضاء مستقل.
س- إصلاح هيكلي شامل للنظام المؤسساتي القائم (PFM) برمته من خلال أنظمة حديثة متطورة قوامها الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة والحكومة الرقمية (e-government) والمحاسبة والفعالية على أساس الكفاءة (meritocracy).