ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا بظلّه على اجتماع عقده البنك المركزي الأوروبي أمس (الخميس)، وأقر خلاله نهجاً أكثر ليونة في استراتيجيته النقدية، آخذاً بصدمة التضخم والخطر على النمو. وكانت تبعات الحرب التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الدولة المجاورة في صلب مناقشات مجلس حكام المؤسسة المالية الأوروبية.
وبلبلت هذه الأزمة الكبرى الرسالة التي أصدرها البنك المركزي الأوروبي في فبراير (شباط)، حين مهّد لـلعودة إلى سياسته الطبيعية بعد عامين قدّم خلالهما دعماً كثيفاً للاقتصاد بمواجهة وباء «كوفيد – 19».
وأعلن البنك أمس، أن مجلسه قرر الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي عند صفر%، كما قرر تخفيض برنامج شراء السندات بشكل أسرع مما كان مخططاً له، وذلك في رد فعل على استمرار معدلات التضخم المرتفعة. وأوضح البنك أن حجم الشراء لبرنامجه العام لشراء السندات «إيه بي بي» سيتم تخفيضه بعد زيادة مؤقتة في نهاية يونيو (حزيران) ليصل مرة أخرى إلى 20 مليار يورو.
وكان المحللون يتوقعون أن يعمد البنك الذي يتخذ من فرانكفورت مقراً، في نهاية العام إلى زيادة معدلات فائدته الرئيسية التي لا تزال بأدنى مستوياتها التاريخية. غير أن الحرب على أبواب أوروبا والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو ستنعكس على اقتصادات منطقة اليورو.
وأوضح الخبير الاقتصادي في شركة آي إن جي (ING) للخدمات المالية كارستن بجيسكي، أن مخاطر حصول ركود تضخمي «ازدادت بشكل واضح». وتسارع ارتفاع الأسعار بشكل مخيف في فبراير ليصل إلى مستوى قياسي قدره 5.8% في منطقة اليورو. ومع الزيادة الجديدة في كلفة المواد الأولية المرتبطة بالنزاع في أوكرانيا، رأى وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير أن أزمة الطاقة «مشابهة» للصدمة النفطية عام 1973.
ولا شك أن التضخم شديد مع ترقب وصول سعر المحروقات إلى 2.20 يورو للتر الواحد وزيادة أسعار المواد الغذائية، ومن المتوقع أن تنعكس على النشاط الاقتصادي، لا سيما في ظل البلبلة المتواصلة في سلاسل الإمداد وتراجع الثقة… غير أن خبير الاقتصاد الكلي كارستن بجيسكي، يرى في المقابل أنْ «لا أحد قادراً فعلياً في الوقت الحاضر على تقدير التبعات الاقتصادية بالأرقام في منطقة اليورو».
وسعياً لتبديد الغموض المخيّم، أصدر البنك توقعات جديدة للاقتصاد الكلي تأخذ بالتبعات المرتقبة للنزاع في أوكرانيا. واكتفت رئيسة البنك كريستين لاغارد، في الوقت الحاضر بإبداء «الاستعداد لاتخاذ أي إجراء ضروري» لضمان استقرار الأسعار، من دون إعطاء المزيد من المؤشرات حول نياتها.
ولن يعمد البنك المركزي الأوروبي برأي فرانك ديكسمير، المسؤول في شركة «أليانز دي آي»، إلى «إعادة النظر في تصميمه على تطبيع سياسة نقدية لا تزال متساهلة للغاية». لكن الخبير رجح أن «يتصرف بليونة» في ظل الغموض المحيط.
و«برنامج المشتريات الطارئة للديون في ظل الجائحة»، هو برنامج بقيمة 1850 مليار يورو باشره لمكافحة الانكماش الاقتصادي الناتج عن تفشي وباء «كوفيد – 19» في وقت يبدو الوضع الصحي الآن تحت السيطرة. في المقابل، يواصل البنك المركزي الأوروبي بوتيرة أبطأ برنامجه الثاني لدعم النمو الاقتصادي المعروف بـ«التيسير الكمّي» والقاضي بشراء سندات عامة وخاصة، «ما دام ذلك يبقى ضرورياً»، وفق ما أعلن في الأشهر الماضية. لكن كان من المستبعد أن تؤكد لاغارد خلافاً لما فعلت حتى الآن، أن وقف البرنامجين سيليه تلقائياً رفع معدلات الفائدة الرئيسية لأول مرة منذ 2011، غير أن لاغارد أبدت تصميم مؤسستها على الاحتفاظ بمرونة، مؤكدة في الوقت نفسه عزمها على مكافحة التضخم، في وقت يبدو الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا أكثر تصميماً بكثير.
وفي مواجهة توقعات للنمو تتخطى بشكل ثابت هدف 2% الذي حدده البنك المركزي الأوروبي، تتصاعد حدة الجدل بين حكام المصارف المركزية في منطقة اليورو.
ودعا بعضهم مؤخراً إلى «الحذر»، على غرار الإيطالي فابيو بانيتا، العضو في مجلس حكام البنك المركزي الأوروبي، فيما يؤكد آخرون وفي طليعتهم رئيس البنك المركزي الألماني يواكيم ناغل، المتمسك بنهج الصرامة المالية، وجوب «مراقبة» الجدول الزمني لتشديد شروط الإقراض. ويرى ديكسمير أن البنك المركزي الأوروبي «لن يحيد عن قاعدة دعم الاقتصاد والأسواق في وضع أزمة»، وهو ما أثبته حتى الآن.
ويمضي الخبير الاقتصادي في مصرف «يونيكريديت» إريك نيلسن، أبعد من ذلك متوقعاً أن يبدأ في درس «برنامج مشتريات طارئة للديون في ظل الحرب»، بهدف احتواء مخاطر ارتفاع معدلات الفائدة على قروض دول منطقة اليورو.