يستدعي انغماس لبنان في وحول أزمة اقتصادية مستمرة منذ 5 سنوات، استنفاراً جديّاً على المستوى الداخلي والخارجي. سيّما وأن تداعيات الأزمة على اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين والسوريين، تزيد من الضغط الذي يتحمّله لبنان. هذا الضغط يتزايد مع استمرار الحرب الإسرائيلية في الجنوب وضبابية أفقها الزمني وحِدّتها، فالتحذيرات بتوسيع رقعتها تتواصل. وهذه المعطيات تنعكس على الأمن الغذائي الذي تحذّر منظّمات المجتمع الدولي من مخاطر اهتزازه أكثر فأكثر، وصولاً إلى انعدامه لدى شريحة أوسع من اللبنانيين واللاجئين. وحتى اللحظة، المخاطر قائمة ومدعومة بتقارير دولية، منها تحذيرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا- الإسكوا، من “أزمة انعدام الأمن الغذائي”، إذ ترى اللجنة أن المشكلة لا تكمن فقط في عدم القدرة على إيجاد الغذاء، بل تطال جودة ما يتم الحصول عليه.
أمّا منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة- الفاو، فصنّفت لبنان في العام 2021 “من بين 20 دولة مهدّدة بانعدام الأمن الغذائي عالمياً”، وذلك بفعل تراكم نتائج الأزمة الاقتصادية مع تداعيات انتشار فايروس كورونا. وفي أيار الماضي، صدر تقرير للشبكة العالمية ضد الأزمات الغذائية وشبكة معلومات الأمن الغذائي، خلص إلى وجود أكثر من 2 مليون شخص في لبنان عانوا من انعدام كبير في أمنهم الغذائي في العام 2023.
وفي سياق متابعة هذا الملف في ظل الحرب الإسرائيلية المتواصلة، طلبت وزارة الزراعة من الفاو، يوم أمس، إجراء “تقييم شامل للأمن الغذائي والمحاصيل الزراعية في لبنان”، ومن المتوقَّع أن يخلص التقييم إلى تقرير يبيِّن “تأثير الأزمات على قطاع الزراعة والأمن الغذائي الأسري وإجراء تحليل اقتصادي كلّي على المستوى الوطني”. لكن هل يُحفَظ الأمن الغذائي بعد ذلك التقييم؟
التقييم حبر على ورق؟
تحاول وزارة الزراعة التحرّك لضمان الأمن الغذائي ضمن الإمكانيات المتوفّرة. وإلى جانب التقييم المرتقب إجراؤه، وقّع الوزير عباس الحاج حسن، في شهر تشرين الثاني 2023، أي بعد نحو شهر على اندلاع الحرب، وثيقة مشروع مموَّل من حكومة كندا ستنفّذه الفاو بالتعاون مع وزارة الزراعة. ويهدف المشروع إلى تحسين أداء سلاسل قيمة الفاكهة والخضار وزيادة الاعتماد على الممارسات الزراعية الجيدة والذكية مناخياً، بالإضافة إلى تحسين البيئة المؤاتية التي تعمل فيها الجهات الفاعلة في تلك السلاسل. كما سيساهم المشروع في زيادة القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات المناخية والاقتصادية، وسلاسل قيمة الفاكهة والخضار، من أجل تعزيز الأمن الغذائي.
إلاّ أن تلك المحاولات تفشل في انتشال القطاع الزراعي من محنته، وتالياً حماية الأمن الغذائي، وتبقى الكثير من الاتفاقيات والبرامج حبراً على ورق “فالعمل بالصدمات لا ينفع”، وفق ما يؤكّده رئيس جمعية المزارعين في لبنان أنطوان الحويك، الذي يلفت النظر في حديث لـ”المدن”، إلى أن محاولة التقييم التي طلبتها الوزارة غير مجدية إذ أنه “لدينا الكثير من الاحصاءات ونتائج تقييمات كثيرة أجريَت في السابق من قِبَل وزارة الزراعة ومديرياتها. وهؤلاء قادرون على جمع المعلومات عن القطاع وإنجاز الدراسات ووضع خلاصة حول واقع القطاع ومعرفة حجم الاستيراد والتصدير. ولذلك، فإن الاستفاقة المفاجئة اليوم، لن تنفع، خصوصاً بالاعتماد على المنظمات الدولية التي تسارع لقبول مشاريع الدراسات لتستفيد منها مادياً، من خلال حث المجتمع الدولي على التمويل بحجّة مساعدة القطاع الزراعي اللبناني وضمان الأمن الغذائي للسكّان واللاجئين، ويتم تشغيل عدد من الخبراء، ووضع تقييم نهائي وتوصيات لا تُنَفَّذ”.
التحضير المسبَق يضمن الأمن الغذائي
وقوع الأزمة الاقتصادية واندلاع الحرب منذ 9 أشهر، تجعل فرص التحرّك لضمان الأمن الغذائي، أقل فعالية. ولذلك يقول حويّك أنه كان على الدولة التحرّك مسبقاً “ووضع دراسات وإحصاءات حول زراعة القمح في لبنان وحجم الاستيراد لمختلف الأصناف، وتأمين مخازن في مختلف المناطق موزّعة على الأقضية. وهذا الإجراء يفيد بشكل أساسي في حالة الحرب. فإذا افترضنا أن دائرة الحرب توسّعت، فهل يستطيع الناس في المناطق تأمين حاجاتهم؟ هل وضعت الدولة خطة طوارىء مسبقة تأخذ في الحسبان أسوأ سيناريوهات الحرب ومنها تقطيع الطرقات واستهداف الشاحنات وحصول حصار بحري؟. كيف سيتم تأمين القمح إن وُجِد، وكيف سينتقل إلى المطاحن ومنه إلى الأفران ثم إلى الناس؟”.
ويحذِّر حويّك في هذا الصدد من أن اتساع رقعة الحرب هذه المرة “ستكون نتائجها أصعب بكثير من نتائج حرب تموز 2006. فهذه المرة الحرب بالنسبة لإسرائيل هي مسألة حياة او موت، ومسألة بقاء، لذلك ستكون أشد من قبل”. ولذلك، كان على الدولة تأمين مستودعات “تلزم أيضاً المستوردين بوضع قسم من موادهم الغذائية في تلك المستودعات، لتكون جاهزة لأي سيناريو محتمل”.
ويأسف حويّك لعدم تحرّك الدولة لاتخاذ خطوات تضمن الأمن الغذائي مسبقاً، مع ان التجارب ماثلة أمام المسؤولين. ويذكِّر بأنه “خلال حرب تموز 2006 عانى لبنان من حصار بحري أوقَف وصول القمح إليها، فطلب منّي وزير الاقتصاد يومها سامي حدّاد المساعدة في دفع مزارعي القمح في عكّار إلى تسليم انتاجهم لتأمين القمح إلى طرابلس، إذ أن الشاحنات لم تعد تتنقّل بسهولة بين المناطق لتأمين القمح من بيروت إلى طرابلس. كان مطلب المزارعين قبض ثمن القمح سريعاً، فوافق الوزير على ذلك، وتم تأمين القمح. وهذه الحادثة دليل على أهمية دعم الزراعة المحلية التي وحدها تشكّل الضمانة لحماية الأمن الغذائي”.
وبالتوازي، عند بداية الأزمة الاقتصادية في العام 2019 “طلبنا دعم القطاع الزراعي بمبلغ 200 مليون دولار سنوياً، ويستطيع هذا المبلغ دفع القطاع لإنتاج مليار دولار سنوياً، مما يعزّز المساحات المزروعة ويزيد حجم التصدير. لكن تم تبديد الدولارات على دعم استيراد الكاجو وغيرها”. لكن لم يفت الأوان بشكل نهائي “مع أن الكثير من الفرص أهدرت على مدى 25 عاماً جرى خلالها رمي المشاريع والدراسات في الأدراج حتى تمّ ضرب القطاع الزراعي”. ومع ذلك، قد يمكن تدارك الوضع وتنفيذ برنامج عمل يحدّد من خلاله وضع القطاع الزراعي وما يملكه من إنتاج، فضلاّ عن ما يمكن استيراده خلال فترة زمنية قريبة، وتوزيع ما يتوفَّر على مخازن تضم كميات كافية من الطحين والخضار والحبوب والأرزّ”. ولا يعوِّل حويّك كثيراً على تطمينات مستوردي المواد الغذائية “فرغم وجود المواد الغذائية في مستودعاتهم، إلاّ أن تطوُّرات الحرب وقصف الطرقات والشاحنات، يقلّل من فرص توزيع المواد على المناطق ويرفع أسعارها. ومن هنا تكمن أهمية المخازن الموزّعة مسبقاً في المناطق”.
تهديد الأمن الغذائي هو خوف جدّي تواجهه الكثير من الدول. لكن ضمانه يرتكز على استعداد تلك الدول لإجراء تغييرات جذرية في آلية إدارة الدولة ومرافقها ووزاراتها ومؤسساتها، لضمان نجاح برامج العمل في القطاعات الإنتاجية وخصوصاً الزراعة. وهذا ما يفتقده لبنان.