لا شبيه لما يجري في لبنان إلا ما حصل في القسطنطينية في القرن الخامس عشر. كما سقطت الامبراطورية أثناء انقسام مجلس شيوخها على “جنس الملائكة”، ينهار لبنان ومسؤولوه ملهيين بطبيعة الخسائر، حجمها ومن يتحملها. جدل “بيزنطي” عقيم لا غلبه فيه لأي فريق، والخاسر الوحيد فيه هو الاقتصاد ومن خلفه كل المواطنين.
ثلاث سنوات من “اللاقرار” خسّرت لبنان ما يقارب 70 مليار دولار، كانت كفيلة بحماية حقوق المودعين وضمان وقف الانهيار. ومع كل يوم تأخير في اعتماد الاصلاحات الحقيقية تزداد الخسائر وتطول فترة الخروج من الأزمة حتى نكاد يصبح لبنان كأفغانستان، وغيرها من الدول التي لا خلاص لها من الازمات.
كلفة اللاقرار
عشية 17 تشرين الاول كان حجم احتياطي العملات الصعبة في مصرف لبنان يقارب 32 مليار دولار، ومحفظة ديون المصارف للقطاع الخاص تقدر بـ55 ملياراً. وبدلاً من المحافظة عليها من خلال: “إقرار “الكابيتال كونترول”، وإصدار قانون يلزم المقترضين بالدولار التسديد بالعملة نفسها جرى تمييع هذه الاجراءات”، بحسب وزير الاقتصاد السابق رائد خوري. فخسر لبنان في 3 سنوات نحو 20 مليار دولار من الاحتياطي. وجرى تسديد نحو 25 مليار دولار من القروض بغير قيمتها الحقيقية أي بالليرة أو اللولار. وتم تهريب ما لا يقل عن 10 مليارات دولار (تم تحويل 6 مليارات دولار في الفترة الفاصلة بين عامي 2019 و2020 وحدها بحسب تقرير للامم المتحدة). هذا المبلغ المهدور والمقدر بحدود 70 مليار دولار كان كفيلاً بوقف الانهيار وضمان تسديد الودائع لكل المودعين”، برأي خوري. وذلك على عكس ما تحول “استراتيجية النهوض بالقطاع المالي” لحكومة تصريف الاعمال إيهام المودعين زوراً بأنها سترد 90 في المئة من الودائع. فهذه النسبة التي تعود للودائع التي تقل عن 100 ألف دولار، لا تشكل، بحسب خوري، “أكثر من 10 مليارات دولار. ما يعني أن الخطة ستشطب أكثر من 90 مليار دولار وتعطل أي إمكانية لعودة نهوض الاقتصاد”.
القول ونقيضه
أمّا ولم يحصل ذلك عن “سابق إصرار وتصميم” من قبل السلطة السياسية على وجه التحديد، لم يبق إلا “منفذ” صندوق النقد الدولي الصغير، وهنا بدأت “التباديع”. ففي الوقت الذي تتعهد فيه الحكومة لـ”الصندوق” بتغيير النهج المتبع الذي أوصل البلد إلى الافلاس، تستمر في مد اليد على ما تبقى من عملة صعبة في “المركزي” والمضي بدعم الليرة على صيرفة… “فما اعتاد على فعله السياسيون طوال العقود الثلاثة الاخيرة يستمرون في فعله”، برأي خوري، “مع فارقين أساسيين وهما: عدم القدرة على الاستدانة من الخارج بعد التخلف عن السداد، وتعميق عزلة لبنان عن بعده العربي نتيجة السياسات المتبعة”.
ضمان النمو
تسديد الخسائر الهائلة التي مني بها الاقتصاد لا تتطلب سحراً أسود. فهناك رأسمال المصارف والودائع مع ما تبقى من الاحتياطي والذهب، وهناك أصول الدولة. “إن لم تمد الدولة “يدها إلى جيبها” ستكون النتيجة تبديد أكثر من 85 في المئة من قيمة الودائع التي يبنى عليها الاقتصاد، وتقهقر البلد والغرق في دوامة الدين كيفما أتت الحسابات”، بحسب خوري، و”الهدف من استعمال أصول الدولة أو جزء منها، ليس لتعويض المودعين فقط كما يظن البعض، إنما لضمان نمو وتطور الاقتصاد. فبقاء هذه الاصول من شركات ومؤسسات وهيئات ومجالس في يد الدولة بعد شطب الديون سيراكم الخسائر ويزيد الاكلاف. إذ ستبقى هذه القطاعات “مرتعاً” للهدر والفساد، وتقديم أسوأ خدمة بأعلى تكلفة. والمواطنون المالكون لها لن ينالوا شيئاً. وذلك على عكس إدارتها بطريقة سليمة ومربحة، في حال جرت الاستفادة منها بأكثر من طريقة من دون أن نكون نعني بذلك بيعها كلياً.
التفاوض مع الصندوق
هذه المقاربة المرفوضة كلياً من صندوق النقد الدولي قبل أن “تلفظها” الحكومة، تعود لكون “الصندوق” لديه قوالبه الجاهزة التي يطبقها في البلدان المأزومة. وحلوله عادة ما ترتكز على خبرة سابقة ومبادئ المحاسبة العمومية. إلا أن إقرار “الصندوق” بفرادة الازمة اللبنانية يتطلب في المقابل حلولاً مغايرة وغير تقليدية”، يقول خوري، و”عدم التوصل لمثل هذه الحلول يتحمل مسؤوليته الفريق اللبناني الذي لا يفاوض مع فريق موظفي “الصندوق”، من موقع عديم الخبرة فحسب، إنما أيضاً مع نقص كبير في الابتكار لما فيه مصلحة البلد والاقتصاد. فمشكلة لبنان أكبر من إفلاس تقليدي ينطبق عليه مبدأ تراتبية الحقوق والمطالب، أو ما يعني شطب رأسمال المالكين ثم حملة الاسهم ثم المودعين. فالبلد لا يملك بنى تحتية قادرة على دعم النهوض في المرحلة اللاحقة، هذا من حيث المبدأ. أما في الواقع فان قوة التفاوض مع صندوق النقد الدولي تتطلب التفكير من خارج الصندوق. ولا سيما أن من يتعاطى معهم لبنان موظفون لا يحيدون عن المبادئ الاساسية، ولا رغبة لديهم باستيلاد الحلول لأزمة فريدة كالتي تضرب لبنان.
التفكير خارج الصندوق
في العادة يقضي توزيع الخسائر بشطب رساميل أصحاب العلاقة أولاً، إنما بالنسبة إلى الحالة اللبنانية فان “النموذج النقدي المصمم من مصرف لبنان منذ البداية مغاير لنماذج مثله في مختلف دول العالم. ففي الوقت الذي لا تعطي فيه المصارف فائدة تتجاوز 50 نقطة مئوية (0.5%)، وتكون بأحيان كثيرة صفراً أو حتى سالبة ويربح المساهم بين 8 و10 في المئة، فان النموذج اللبناني يعطي المودع ربحاً مثل المساهم أو حتى أكثر في أحيان كثيرة. فالربح في القطاع المصرفي الذي يقدر بـ15 في المئة سنوياً، كان يذهب منه حوالى 6 في المئة كتوزيع أرباح للمساهمين والـ9 في المئة المتبقية كانت أرباحاً محتجزة أدت إلى تضخم رأس المال. والدليل أن رأسمال المصارف الذي كان بحدود 1 إلى 1.5 مليار دولار في بداية التسعينيات ارتفع إلى حدود 20 مليار دولار عشية الازمة. في المقابل فان أرباح المودعين ارتفعت من 4 في المئة وصولاً حتى 10 في المئة في السنوات الاخيرة. وعليه فانه من الطبيعي أن يتحمل المساهم في البنوك الاجنبية المسؤولية بداية لأنه يستفيد مع علمه بالمخاطر على عكس المودع. أما الحالة اللبنانية فقد صممت هيكلياً لضمان استفادة المودعين بقدر المساهمين. وهذا التصميم يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في أي عملية تفاوض مع صندوق النقد الدولي.
من جهة ثانية فان لصندوق النقد الدولي حجتين لعدم استخدام أصول الدولة، الاولى أن هذا الاستخدام لا يجب أن يكون تحت إدارة الدولة لانها تؤدي إلى استمرار الهدر. والثانية أن استخدام أصول الدولة لاطفاء ديون المودعين غير عادل لبقية المواطنين من غير المودعين. وبرأي خوري فان “من غير المطروح بأي شكل من الاشكال إبقاء أصول الدولة في ظل الصندوق السيادي تحت إدارتها. كما أن بناء اقتصاد سليم يعود بفوائد أكثر على غير المودعين من خلال النمو الاقتصادي وتحسن الخدمات وضمان فرص العمل والمدخول الجيد”.
المشكلة الأكبر لغاية اللحظة أن طرح الحكومة بشطب الدين، لا تقابلة أي خطة جدية لاعادة النهوض وتفعيل القطاعات وتأمين تدفق العملة الصعبة وتعويض الخسائر في القدرة الشرائية بشكل حقيقي، من دون التسبب بتضخم. والخوف من أن يكون الحل الوحيد المتبقي لاخماد حريق الانهيار هو بتجويع نيرانه، أي إشعال النار بجبهة متقدمة لكي لا يعود هناك ما يأكله الحريق الكبير. وهو ما يعرف عملياً باطفاء الحريق بالحريق.