حطّمت موجة حرّ غير مسبوقة اجتاحت بريطانيا وجميع أنحاء أوروبا، الأرقام القياسية لدرجات الحرارة، مؤجِّجةً حرائق الغابات، ومعطّلةً حركة النقل، وواضعةً الخدمات الحكومية والمدارس والمستشفيات تحت ضغوط شديدة، بينما تكافح الحكومات للتعامل مع أجواء مناخية غير مألوفة. وبعد فيضانات الصيف الماضي الاستثنائية التي ضربت أجزاء واسعة من البرّ الأوروبي، تجد سلطات القارّة نفسها مجدّداً بحاجة إلى مزيد من الإجراءات الراديكالية الطويلة الأمد، لمواجهة تأثير تغيّرات المناخ التي لم يَعُد بالإمكان تجاهلها
ضربت موجة حرّ غير مسبوقة بريطانيا وأجزاء واسعة من قلْب أوروبا وجنوبها، ما أدّى إلى اضطرابات مسّت عدّة قطاعات رئيسة، وأثارت أسئلة حول قدرة السلطات على التخطيط للتعامل مع انعكاسات التغيير المناخي بشكل ممنهج. وبلغت الحرارة ذروتها عند 39 درجة مئوية في معظم أنحاء لندن وجنوب غربي إقليم إنكلترا. ومع الساعة الرابعة من عصر الثلاثاء، وصلت الحرارة إلى 40.3 درجة مئوية في كوننينغسباي في مقاطعة لينكونشير، في أعلى مستوى لها في تاريخ المملكة المتحدة – الرقم القياسي السابق كان 38.7 درجة وسُجّل في عام 2019 -. وشهد إقليم ويلز، أيضاً، يومه الأكثر سخونة على الإطلاق بتسجيل الحرارة فيه 37.1 درجة، فيما من المتوقّع أن تسجّل بعض أجزاء إنكلترا لاحقاً 41 درجة مئوية. وتَسبّب هذا الارتفاع غير المسبوق في معظم أنحاء المملكة المتحدة بتعطيل العديد من رحلات القطارات وإلغاء أخرى جوّية، وحمْل المدارس على إرسال تلاميذها مبكراً إلى المنازل، وإلغاء عمليات جراحية في المستشفيات، وتأجيل مؤسّسات حكومية مواعيد مراجعتها لعدّة أيام. وتعرّضت شبكة الكهرباء، أيضاً، لضغوط شديدة بعد ارتفاع الطلب وانخفاض الإنتاج من محطّات الطاقة التي تعمل بالغاز – تشكّل معظم سعة نظام إنتاج الكهرباء في المملكة -، وتُعدّ أقلّ كفاءة في أجواء الحرّ الشديد، ما دفع شركات التزويد إلى دفع أسعار قياسية لاستيراد الكهرباء من هولندا.
بالنتيجة، بدا جليّاً أن مجمل منظومة البنية التحتية والمباني العامّة والخاصة في البلاد غير قادرة على العمل بشكل اعتيادي في ظلّ ظروف مناخية متطرّفة؛ إذ إن نصف منازل المملكة على الأقلّ غير مجهّزة للتعامل مع درجات الحرارة المرتفعة، كما أن شبكة السكك الحديدية مصمَّمة للتعامل مع حرارة قصوى تبلغ 35 درجة مئوية، ولذا فقد اضطرّت شركات السكك أخيراً إلى تخفيض عدد القطارات العاملة على مختلف الخطوط بما فيها قطارات أنفاق لندن – التي تُعتبر شريان الحياة في العاصمة -. وقالت أكبر شركة تتولّى مدّ المسارات إنها يمكن أن تعيد هندسة الشبكة البريطانية للتعامل مع الأجواء الأكثر سخونة، لكن هذا سيتركها غير قادرة على التعامل مع درجات الحرارة القصوى عندما تهبط دون الصفر في فصل الشتاء. كذلك، أغلقت سلطات الطيران المدني مطار لوتون – شمال لندن – مؤقّتاً بعد ظهور عيوب سطحية في مدرج المطار. وتضاعفت الطلبات على خدمات الإسعاف، في وقت كانت فيه هيئة الخدمات الصحية الوطنية تقلّص ساعات العمل في العديد من المستشفيات، بالنظر إلى أن كثيراً من المباني – ومعظمها قديم – غير مزوَّد بالتكييف. والحال نفسه انسحب على المدارس، حيث حذّرت نقابات المعلمين من أن العديد من المباني قديمة وغير مجهَّزة للتعامل مع الارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة، في حين أغلق العديد منها أبوابه مبكراً، ما تسبّب بحالة إرباك للعديد من الأسر. وحذّر مسؤول رفيع في «هيئة الخدمات الصحّية الوطنية» من أنه «من دون استثمارات ضخمة لتغيير البنية التحتية للمستشفيات، فإن الصيف سيصبح أكثر صعوبة على القطاع الصحّي البريطاني من الشتاء».
ونقلت التلفزيونات المحلّية مشاهد لحرائق اندلعت في عدّة مناطق خضراء عبر بريطانيا. ومع ذلك، لم يكن الأمر بالسوء الذي انتهت إليه الأوضاع على البرّ الأوروبي، حيث أعلنت ستّ دول على الأقلّ حالات الطوارئ، أو أصدرت إنذارات حمراء، فيما تناضل الحكومات لتوفير المأوى لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين نزحوا بسبب الحرائق. وأجْلت السلطات في فرنسا ما يقارب العشرين ألف شخص بِمَن فيهم سياح ومصطافون لحمايتهم من حريقَين كبيرَين في غابات الصنوبر اجتاحا الريف في الجنوب الغربي بالقرب من مدينة بوردو، في حين وصلت الحرارة في إقليم بريتاني الغربي إلى 42 درجة. وفي إسبانيا والبرتغال، أجبرت عشرات نقاط الاشتعال في الغابات الآلاف على إخلاء منازلهم. وقالت الحكومة الإسبانية إن الحرائق أودت بحياة شخصَين ودمّرت أكثر من سبعين ألف هكتار من الغابات في أنحاء البلاد – أي ضِعف المتوسّط السنوي للمساحات التي احترقت خلال العقد الماضي -. وعزت السلطات الصحّية في البلدين ارتفاعاً استثنائياً في أعداد الوفيات بعدّة مئات على الأقلّ خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، إلى موجة الحرّ. وكانت الحرارة قد وصلت إلى 45 درجة مئوية في إسبانيا، و47 في البرتغال. وتأثّرت كرواتيا واليونان، أيضاً، بمسلسل الحرائق، الذي يبدو أنه سيتمدّد في عموم إقليم البلقان مع استمرار الحرّ الشديد.
وأثار الإجهاد الذي تعرّضت له أكثر من ستّ دول أوروبية من أجل الحفاظ على حركة النقل والمستشفيات والمدارس والخدمات العامة، تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومات الغربية تمتلك خططاً كافية للتعامل مع الارتفاعات المتوقّعة في درجات الحرارة، والناجمة عن تغيُّر المناخ. ومن المؤكد، وفق خبراء، أن على الأوروبيين رفع مستوى الأداء في التخطيط للتعايش مع طقس متطرّف. وتمتلك القارّة، بشكل عام، الحلول التقنية اللازمة، لكنّ هناك غياباً لمركزيّة القرار، حيث تتجنّب غالبية الحكومات الليبرالية اتّخاذ خطوات جذرية في هذا الاتجاه، وتترك مسؤوليات المواجهة موزَّعة عبر الإدارات والوكالات وشركات القطاع الخاص والأفراد، فيما هناك كثيرون في مواقع التأثير والقرار ممَّن لا يزالون يعتقدون بأن التغييرات المناخية لم تصل إلى مستويات حرجة تتطلّب تحوّلات فاصلة في أنماط التخطيط والإدارة والإنفاق. وتأتي موجة الحرّ الحالية، والثالثة إلى الآن هذا الصيف، بعد عام واحد فقط من فيضانات غير معتادة أودت بحياة أكثر من 200 شخص في ألمانيا وبلجيكا، نُسبت بدورها إلى التغيير المناخي. ولا يزال موسم الصيف في أوّله عبر أوروبا، ومع ذلك، فقد سُجّلت هذا الأسبوع درجات حرارة أعلى من المعتاد حتى في أقصى شمال القارّة.
وكانت السياسات النيوليبرالية التي تبنّتها النخب الحاكمة في بريطانيا والعديد من الدول الأوروبية خلال العقود الأخيرة، قد انتهت بالبنية التحتية إلى أيدي القطاع الخاص، حيث تمتلك مكوّناتها وتسيطر عليها وتديرها شركات ليس لديها أدنى حافز لتقليص هامش ربحها المباشر من أجل رفع سويّة الخدمات بشكل جدّي، ناهيك عن التعامل مع تحدّيات ذات آجال طويلة مثل تحوّلات المناخ. وتعالت الصرخات الشعبية، عدّة مرّات، من أجل استعادة مكوّنات البنية التحتية من أيدي القطاع الخاص، لكن من دون اتّخاذ خطوات فعلية. وتأتي حالة الطوارئ الحرارية في الوقت الذي تعاني فيه أوروبا أيضاً من أزمة طاقة حادّة، حيث تخطّط العديد من الدول لحرق المزيد من الفحم هذا الشتاء لتعويض النقص في إمدادات الغاز والنفط من روسيا، ما سيفاقم من الانبعاثات التي يُعتقد أنها تتسبّب بالاحتباس الحراري وتدفع في اتّجاه تغيير المناخ. ولذلك، فإن التوقّعات قاتمة بشأن الوضع الحراري خلال العقد المقبل، فيما من غير الممكن في ظلّ التوجّهات الحالية للغرب، تحقيق الأهداف التي تمّ التوافق عليها في القمم المناخيّة.