تعمل الحكومة الميقاتية على أكثر من جبهة في ظل حالة “عدم اليقين” المسَيطرة على الساحة الداخلية، إن لجهة إمكانية انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، أو بالنسبة إلى مصير الحرب المشتعلة جنوباً وسخونتها الممتدة إلى البقاع والإقليم…
وليس الوضع المالي سوى واحدة من الجبهات الأكثر تشعّباً ودقة. فإلى جانب ملف أموال المودِعين العالقة في المصارف بحماوته وجديّته، تقترب الحكومة من مواعيد استحقاقات متتالية لتسديد سندات “يوروبوند” مستحقة هذا العام، وتتوزَّع بين 22 نيسان، وأواخر آب، و4 تشرين الثاني، و3 كانون الأول. كما هناك سندات تستحق خلال العام المقبل أحدها في 26 شباط، وآخر في 12 حزيران 2025.
لكن حتى الآن لا شيء يشي بأن الحكومة ستتحرّك استنفاراً لتلك الاستحقاقات، إن في أروقة وزارة المال أو في كواليس مصرف لبنان، لدرس الخطوة المفترض اتخاذها في هذا الشأن. الأمر الذي يُثير التساؤل حول ما إذا كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ستتبنّى قرار “التعثّر عن التسديد” الذي اتخذته حكومة الرئيس حسان دياب، وتستكمل بالتالي غضّ الطرف عن دفع المستحقات المتوجبة عليها وتتخلّف عن تسديدها؟! على رغم علمها اليقين بالتداعيات الخطيرة التي عكسها هذا القرار المعطوف على فشل سياسة الدعم التي لجأت إليها حكومة دياب والتي كلّفت البنك المركزي أكثر من 50 مليار دولار اقتُطعت من احتياطه بالعملات الأجنبية، من دون أي خطة مدروسة، في حين كان لبنان أحوج ما يكون إلى حفنة من الدولارات في ظل الانهيار الفاقع لعملته الوطنية!
الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف الدكتور سمير حمود يُجيب على هذا التساؤل بالتأكيد أن “الدولة هي أصلاً في حالة تخلّف، وبالتالي من غير المنطق القول إن الدولة ستسدّد ما يستحق وتترك المُستَحَق… لقد أصبحت كل السندات مستحقة”.
ويوضح في حديث لـ”المركزية”، أن قانون الـ”يوروبوندز” ينصّ على “وجوب أن تسدّد الدولة كامل السندات، القديمة والجديدة، في حال استحقت سندات جديدة”.
إذاً كل السندات مستحقة، يقول حمود، “من هنا لا يمكن البحث عن الاستحقاقات المقبلة التي أصبحت شكلية، فالدولة في حالة تخلف ولا أعتقد أنها ستقرّر سداد الاستحقاقات الجديدة المقبلة. كما من غير المنطق دفع سندات جديدة تستحق قريباً، وترك أخرى مستحقة سابقاً من دون تسديد… في ضوء كل هذه المعطيات، يمكن القول إن لا علاقة لحكومة الرئيس ميقاتي بالموضوع”.
ويرى أن هذا “الملف شائك يجب معالجته انطلاقاً من مبدأ تسديد كامل السندات المستحقة”، موضحاً أن “السندات خاضعة لقانون نيويورك وليس للقانون المحلي، لأنها سندات “يوروبوند”، وبالتالي ستخضع لبروتوكول إعادة جدولة المديونية كلها”.
تعديل “قانون النقد والتسليف”؟!
ومن بين الملفات المالية التي تفرض نفسها على الحكومة الحالية، هناك “قانون النقد والتسليف” الذي تعمل على تعديله لجنة مختصّة برعاية الرئيس ميقاتي، الأمر الذي يثير مخاوف الأوساط المصرفية والمالية كما النقدية، من تقييد صلاحية حاكم مصرف لبنان ووضع ضوابط على أدائه وتجريده من استقلاليّته التي طالما تمتّع بها، ووضعه تحت وصاية وزير المال خلافاً لما هو عليه قانوناً في كل دول العالم.
ويعلّق حمود على هذا الموضوع بالقول: في ضوء هذا الوقت الضائع وفي ظل حكومة تصريف أعمال ومجلس نيابي منقسِم غير قادر على انتخاب رئيس للجمهورية، هل يعتبر أي عاقل أن أحداً قادرٌ على تغيير “قانون النقد والتسليف” أو قد ينجح في ذلك؟! خصوصاً في ظل أزمة مصرفية غير مسبوقة وفي دولة لا تعترف بالفجوة الموجودة في مصرف لبنان، كما في ظل الوضع السياسي القاتم ولا سيما الإداري بما فيه من توزيع طائفي وغيره… في ضوء كل ذلك هل يمكن المَسّ بصلاحية حاكم مصرف لبنان؟
ويُضيف: بغضّ النظر عن مارونيّه أو طائفته، إنما انطلاقاً من خبرتي في العمل المصرفي، أرى أن من الخطأ الجسيم والكبير أن يتم المَسّ بأي نقطة من صلاحية حاكم مصرف لبنان، بل يجب تعزيزها أكثر. لقد شهدنا كيف يمكن لعمل اللجان والمجالس في ظل غياب رئيس تنفيذي حقيقي له صلاحيات واسعة، أن يؤدي إلى تمييع الأمور وإضاعتها… وبالتالي ليس مسموحاً لمجلس مركزي أن يصبح هو الرئيس التنفيذي أو أن يصبح هناك حاكم مصرف لبنان رئيساً تنفيذياً مقيَّد الصلاحيات!
وإذا كان هناك من تعديل، وفق حمود، “فيمكن تعديل بعض مواد “قانون النقد والتسليف” ليتناسب مع شروط “بازل” ومع التقنية الحديثة في العمل المصرفي والتطوّر الحاصل فيه. إنما يجب أن يبقى هناك رئيس تنفيذي على مصرف لبنان بصلاحيات واسعة”.
“صلاحيات حاكم مصرف لبنان لا تُمَسّ… إن تعيين مجالس البنك المركزي يجب أن يكون بلغة مهنيّة بحتة، وليس بلغة سياسية طائفية. لا أرى مشكلة في استمرارية توزيع الطوائف، إنما المشكلة تكمن في عودة كلٍ إلى رئيس طائفته أو للجهة السياسية التي تعود إلى طائفته! هنا الخطأ الكبير…” يختم حمود.