الحكومة استسلمت لصندوق النقد؟

اليوم، يقف العالم «على نصف رِجل» أمام الوباء المجهول. العزلة الفعلية لغالبية البشر، جعلت الناس يتفكرون في أحوالهم الذاتية، لكنها دفعتهم عمداً نحو التفكير في حال العالم من حولهم. النظام الرأسمالي الاستهلاكي الحاكم في العالم منذ ستة عقود على الاقل، لا يهتم مطلقاً للعدالة الشاملة. يعرف منظّروه ومستخدموه والمستفيدون منه، أن العدالة الفعلية تمنع التوحش القائم، وأن العدالة بحدّها الأدنى تمنع هذه الفوارق الطبقية الهائلة. لكن أمام تحدّ من هذا النوع، كيف يكون حال الجميع؟ لا اختلاف في آليات نقل العدوى، ولا اختلاف في آليات الإصابة بالفيروس، والأهم، لا اختلاف في العلاجات المفترضة. في حالة كورونا، لم يعد مهماً إن كنت قادراً على الوصول الى مستشفى للمرفّهين، أو إلى مستشفى عام، لأن ما هو مطلوب ليس موجوداً في المكانين. اللقاح والعلاج، متى توافرا، لا يحتاجان الى مستويات رفاهية حتى يصلا الى المرضى.

لكن النفس الأمّارة بالسوء والشر، لا تزال على ما هي عليه، وبقوة. عندما يفكر دونالد ترامب في كيفية إعادة دورة الحياة الى المؤسسات العامة والخاصة في أميركا، يكون مرجعه عدّاد الأرباح المتوقف عن الحركة. وترامب هنا، يعبّر عن حال الـ5 في المئة من سكان هذا الكوكب، الذين لا يريدون فهم موجبات التضامن الانساني في هذه الحالة. اليوم، قرر النقاد والصحافيون والكتّاب والأطباء الإفراج عن آرائهم النقدية تجاه حكومات الغرب الرأسمالي. وها هي وسائل الإعلام والدوريات تعجّ بالمقالات التي تنتقد غياب الأنظمة الصحية القوية. لكن كل هؤلاء لا يزالون يخافون من الإقرار بأن خصومهم التقليديين، من الدول المحافظة، أو غير المنخرطة تماماً في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، أظهروا أنهم أكثر قدرة، ليس على إدارة الأزمة وحسب، بل وعلى حماية شعوبهم والوقوف من جديد، ومواجهة تحدي قيادة العالم.

لنعد الى لبنان اليوم، حيث المشكلة ليست محصورة بسلوك الأغنياء. تظهر النتائج المتعلقة بالتبرعات المعلنة أو عمليات التكافل الاجتماعي، أن أقل من واحد في المئة من ثروات الأغنياء تستخدم اليوم لمواجهة تداعيات المرض. الاسواق المحلية ليست في وضع انهيار حتى اللحظة. لكن حجم التراجع في الاستيراد لا يتعلق بالكماليات فقط، بل حتى بالحاجات الاساسية للناس. وإذا لم يحصل تغيير كبير في الاسبايع الثلاثة المقبلة، فإن لبنان مقبل على أزمة مواد غذائية مطلع حزيران المقبل. وهذه الازمة لا علاج لها بغير توافر الاموال الكافية لشراء هذه المواد التي تحتاج إليها كل الأسر في لبنان. وتوافر الاموال ليس صعباً تعريفه: إما أن تخلق الدولة عملة قابلة للصرف عبر المصرف المركزي وتعطيها للناس على شكل تبرعات أو ديون، أو أن يعمد أصحاب المحافظ الكبيرة الى الإفراج عن قسم من موجوداتهم ومنحها الى الدولة والى الناس لمعالجة الازمات المتفاقمة.
في مصارف لبنان، اليوم، نحو 150 مليار دولار من الودائع. نحو 70 في المئة منها بالدولار، وثلاثين منها بالليرة اللبنانية. وتبيّن من عمليات تدقيق أجريت بالتعاون مع مصارف كبرى، أن أكثر من ثلثي المودعين في مصارف لبنان يملكون حسابات لا تتجاوز موجودات كل منها عشرة ملايين ليرة لبنانية أو خمسة آلاف دولار أميركي. وفي حال قررت المصارف إقفال هذه الحسابات بالدولار أو بالليرة، فسنشهد انحساراً كبيراً جداً في هجوم المودعين على المصارف وفروعها، علماً بأن هذه العملية لا تتطلب أكثر من مليار ونصف مليار دولار فقط. وهو مبلغ تستطيع المصارف تأمينه لو أرادت من أموالها الخاصة. وهي عملية لن تحصل من دون ضغوط جدية تقوم بها الجهات المعنية، سواء في مصرف لبنان أو في وزارة المالية أو حتى القضاء.
مناسبة هذا الكلام ليست الحاجة الى توفير متطلبات الحد الأدنى للناس، أو إعادة حقوق المودعين المفترض أنها مقدسة في النظام الرأسمالي الحر، بل مناسبته التحول المفاجئ والمؤشرات الخطيرة على استسلام فريق رئيس الحكومة حسان دياب للضغوط من قبل حزب المصرف وحزب الأثرياء، والقبول ببدء التفاوض غير المباشر مع صندوق النقد الدولي بحجة أنه سيمد لبنان بقرض تصل قيمته الى 15 مليار دولار لإطلاق العملية الاقتصادية الجامدة منذ ما قبل أزمة الكورونا. الجديد، أن مؤسسة لازارد الفرنسية، المفترض أن العقد معها يفوّضها حصراً التفاوض مع حاملي السندات في الخارج على إعادة هيكلة الدين العام، يبدو أنها حصلت على تفويض أوّلي من جانب رئاسة الحكومة اللبنانية – ومن دون أي قرار صادر عن مجلس الوزراء الذي لم يناقش الأمر – لإطلاق مفاوضات هدفها وضع إطار برنامج للتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهي خطوة بالغة الخطورة، وليست أصلاً محل إجماع، لا داخل الحكومة ولا على مستوى البلاد. فكيف يحصل ما يحصل؟
بحسب مصادر واسعة الاطلاع، فإن حزب المصرف الموجود داخل الحكومة بقوة، والموزع على عدد من القوى السياسية، نجح في الوصول الى النقاط الأكثر تأثيراً على رئيس الحكومة. وهناك وزراء يمثلون قوى أساسية في الدولة من التيار الوطني الحر (وزيرا الاقتصاد والطاقة) الى حركة أمل (وزير المالية) الى وزير تيار المردة (وزير الأشغال) فوزير رئيس الحكومة (وزير البيئة)، كل هؤلاء، يمثلون قوة ضغط، بالتعاون مع فريق من المستشارين الذين ظهرت أسماؤهم في لوائح المرشحين لمناصب مالية شاغرة في المجلس المركزي لمصرف لبنان ولجنة الرقابة ومفوض الحكومة وهيئة الاسواق المالية. وكل هؤلاء يرفضون «العلاج المحلي» الذي يعرفون أنه يتطلب خطوات قاسية وجريئة تصيب أصحاب الثروات الكبيرة من مودعين في المصارف الى ناهبي الاملاك العامة الى كبار المستفيدين من دورة الاقتصاد الريعي على مدى العقود الثلاثة الماضية. وهؤلاء، الذي لم يجمعوا الى اليوم أكثر من عشرين مليون دولار لدعم الدولة والناس في مواجهة أزمة كورونا، يريدون الذهاب مباشرة نحو صندوق النقد الدولي، بحجة أنه مصدر الأموال التي يحتاج إليها لبنان، ولكنهم لا يهتمون للثمن المقابل.
وبحسب المصادر نفسها، فإن الشروط الاولية التي وردت في مناقشات غير رسمية حول مطالب صندوق النقد الدولي، وبعضها جرى تمريره في برنامج «سيدر» أو في المحادثات غير الرسمية مع شركات استشارية دولية، فإن هذه الشروط تشتمل على:
أولا: المباشرة في إعادة هيكلة الدين العام، من خلال إطفاء قسم من الدين عبر إلغاء ديون مصرف لبنان والضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع.
ثانياً: شطب نصف الودائع الموجودة في المصارف اللبنانية، من دون وضع آلية متناسبة لناحية حفظ الحقوق الاصلية للمودعين والتمييز بين الارباح غير المشروعة لكبار المودعين أو أصحاب المصارف وبين الحسابات التشغيلية العادية للناس.
ثالثاً: العمل على تقليص حجم القطاع العام بنسبة لا تقل عن ثلاثين في المئة، من دون أي اعتبار لجيش العاطلين من العمل الذي سيقود ثورة اجتماعية الى جانب العاطلين أصلاً من العمل.
رابعاً: الشروع في بيع المؤسسات الناشطة للقطاع الخاص، من كهرباء لبنان الى الهاتف بنسختيه الثابتة والخلوي الى كازينو لبنان الى شركة الميدل ايست الى مصلحة التبغ والتنباك وبعض قطاعات النقل (هل تذكرون الورقة الإصلاحية الخاصة بسعد الحريري؟).
خامساً: عرض الأصول الأخرى للدولة، من ذهب وأملاك عامة برية أو بحرية، للتداول (البيع) بما يسمح باستقطاب رؤوس أموال جديدة.
سادساً: تحرير سعر الدولار الاميركي وتركه رهن سوق العرض والطلب في الاسواق المالية وتعاملات المؤسسات النقدية في البلاد، وعدم توفير أي دعم إضافي لقطاعات النقل والمحروقات والقمح والادوية.
سابعاً: اعتماد نظام ضريبي جديد يسمح بتحصيل عائدات اضافية من خلال أسعار المحروقات (زيادة سعر صفيحة البنزين) أو أدوات الاستهلاك (زيادة الضريبة على القيمة المضافة).
ثامناً: إعادة هيكلة الدولة بطريقة تمنح القطاع الخاص فرصة أكبر للمشاركة في إدارة جميع مؤسسات الدولة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي بعد توفير دعم له لإعادة إطلاق دورة العمل الخاص بها، وتوفير حاجته من السيولة عبر سداد الدولة لديونها لمصلحة المصارف.
تقول المصادر إن هذه الافكار هي حصيلة سلة الشروط. لكن مؤسسة لازارد تعرف أن الحكومة اللبنانية غير قادرة أو غير موافقة على السير بها كلها. والمشكلة هنا، أن الحكومة إن وافقت على مبدأ التفاوض، فسوف تجد نفسها بعد وقت قصير أسيرة لعبة الشروط، كما هي حال الدول التي تورطت مع صندوق النقد خلال العقود الثلاثة الماضية في أكثر من منطقة من العالم، وحيث لم تؤدِّ برامج الصندوق الى حماية أي نظام مالي من الانهيار المتواصل. وكل دولة عادت لتقف من جديد، إنما فعلت ذلك من خلال اللجوء الى خيارات أخرى، أساسها برامج تحفيز تعيد دورة العمل في الاقتصاد العام، وهو ما ليس متوافراً أبداً في المشروع الخاص بلبنان، لأن القيّمين على التفاوض، سواء في لبنان أم من المؤسسات الاستشارية الدولية، ليسوا سوى موظفين لدى حزب المصرف نفسه!
تشير المصادر الى أن حزب المصرف يراهن على توفر غالبية وزارية معه، تشمل الفريق الوزاري لرئيس الحكومة والتيار الوطني الحر وتيار المردة، ووزير المالية، وأن الموقف الاعتراضي لثنائي حركة أمل وحزب الله لن يتحول الى معركة قاسية، وأن السقف تم خفضه أصلاً في المداولات الجارية، وسيكون الثنائي مضطراً إلى السير بالتوافق الوزاري العام. وبناءً على التصوّر هذا، سيُعرض الأمر على حزب الله وحركة أمل قريباً.
يبدو أن الفريق الحكومي المستميت للسير ببرنامج صندوق النقد يقرأ مواقف حزب الله وأمل بطريقة مختلفة. فأعضاء هذا الفريق قالوا في حلقات نقاش جانبية إن الموقف الذي أعلنه الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل مدة، حول عدم وجود رفض للتعاون مع صندوق النقد، هو غطاء لنا للسير في التفاوض، وأن الرئيس نبيه بري قال الكلام نفسه في الاجتماع الموسع الذي عقد في القصر الجمهوري قبل مدة. لكن حقيقة الامر أن حزب الله عاد وأوضح لمعنيين، أنه لا يعارض مبدأ التفاوض، لكنه سيعارض حكماً الشروط القاسية التي يفرضها صندوق النقد، وأن حركة أمل تطلب عدم اعتبار الموقف بطاقة خضراء ما لم يتم استنفاد الخيارات الاخرى.
من دون قرار ممن مجلس الوزراء، حصلت لازارد على تفويض من السراي للتفاوض مع «الصندوق»

وفي المناقشات المضادة، تبين أن الرئيس ميشال عون استقبل قبل مدة خبراء، بينهم مَن خدم لوقت طويل في صندوق النقد، ومنهم من هو موجود الآن في الولايات المتحدة الأميركية. وهؤلاء حذروا رئيس الجمهورية من خطورة السير في برنامج صندوق النقد، لأنه سيدمّر ما بقي من أصول يملكها لبنان، وأن هذا البرنامج لن يساعد في قيام اقتصاد منتج.
وبحسب مداولات جارية، فإن شركة لازارد الوسيطة مع صندوق النقد في مفاوضات غير رسمية، تقول إنه في حال وافق لبنان على السير في الشروط، فسيوفر صندوق النقد تمويلاً على ثلاث سنوات بقيمة 5 مليارات دولار لكل سنة. لكن هذه المؤسسة لم تحصل على وثائق رسمية تدعم موقفها. وهو حال كثيرين من جماعة حزب المصرف الذين يتحدثون بطريقة تعكس إما درجة عالية من الغباء أو درجة أعلى من التآمر على مصالح لبنان الاستراتيجية. وهي نقاط بات واجباً التوقف عندها. ومن هنا، يمكن الالتفات الى أن في لبنان قوى قوية لا تزال تتصرف على أساس أنه يجب إرضاء الاميركيين والغربيين قبل أي شيء آخر.
وفي مواجهة هذه الفكرة، اتضح أن فريقاً يملك تصورات لعلاجات محلية، لديه من الارقام والمعطيات ما يشير الى أن العجز الفعلي في ميزان المدفوعات يمكن تقليصه مع تراجع الاستيراد من جهة، بسبب الوضع المالي في لبنان وأزمة كورونا المستجدة، وأن تنشيط الاقتصاد المحلي يساعد في رفع مستوى الصادرات، لأن كلفتها ستكون أقل مع تراجع قيمة العملة المحلية.

مخاطر كبيرة على أصول الدولة من أملاك… وطرد 30 في المئة من موظفي القطاع العام

وهذا يسمح بتقديرات علمية تقود الى تقليص العجز في ميزان المدفوعات بدرجة كبيرة، وأن الفارق يمكن تغطيته من خلال موجودات مصرف لبنان (هذا إذا صدق رياض سلامة في أنها تبلغ حالياً نحو 21 مليار دولار). إضافة الى ذلك، فإن عملية تدفق الاموال الى لبنان من خارج النظام المصرفي التقليدي لا تزال جارية من دون توقف. وبعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى تدفق مليارات الدولارات سنوياً وسيرها في الاقتصاد غير المنظم القائم اليوم، علماً بأن محافظة مصرف لبنان على السعر الرسمي للدولار الحالي (1500 ليرة) سيساعد على حماية جزء من حاجات الناس الرئيسية.
الخطير في الأمر، وما يجب أن يعرفه الناس، هو أن اللوائح المُعدّة من قبل وزير المالية الحالي للمرشحين للمناصب المالية الشاغرة، لا تعبّر إلا عن تطلعات حزب المصرف وأغنياء لبنان المنتشرين ليس في المؤسسات العامة أو في القطاع المصرفي وحسب، بل أيضاً في بعض المجموعات التي تزعم أنها «الأساس» في انتفاضة 17 تشرين.
يبدو أن لبنان مقبل على مواجهة غير مسبوقة، قد تعيد الناس مجدداً الى الشارع. لكن الأمر قد يظهر هذه المرة على شكل مختلف، وبتحالفات مختلفة، وربما بأداوات اعتراض مختلفة. والأمر كله الآن بيد رئيس الحكومة حسان دياب أولاً، وبيد فريق سياسي يفترض أنه قرّر تحمّل المسؤولية عندما سار في هذه الحكومة.

مصدرابراهيم الأمين - الأخبار
المادة السابقةلهذا السبب أوقفت المصارف عمليات السحب بالدولار
المقالة القادمةمستوردو المستلزمات الطبية يعانون… المصارف تقطع “الأوكسيجين”!