أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عدم عقد جلسة يوم الجمعة الماضي، تحت ضغط الشارع الذي امتلأ بالعسكريين المتقاعدين الرافضين عقد أي جلسة للحكومة ما لم تناقش مطالبهم ومطالب زملائهم بالخدمة الفعلية. وهؤلاء يدركون حجم الضغط الذي تواجهه المالية العامة، لذلك يطلبون “المستطاع” كمدخل لتهدئة الشارع والذهاب مع الحكومة إلى وضع سلسلة رتب ورواتب جديدة تستطيع الخزينة العامة تحمّلها. لكن إلى حينه، من غير المقبول بالنسبة للموظفين والمتقاعدين، عدم تصحيح أجورهم بأي شكل من الأشكال.
الجديد في هذا الملف، أن “الموظّفين والمتقاعدين يسمعون أخباراً من هنا وهناك عن توجّه رئيس الحكومة إلى تنفيذ المطالب وإعطاء زيادات مالية تتراوح بين 30 و40 بالمئة من حجم الرواتب التي كانت قبل الأزمة”، وفق ما تقوله مصادر متابعة للملف في حديث لـ”المدن”. لكن هذه الأنباء “ما زالت حبراً على ورق”.
عدم الثقة بالكلام المعسول
أبعد من الحبر على الورق، تذهب المصادر في تفسيرها لما يُشاع “سواء بتسريب مقصود من رئيس الحكومة أو من دوائر محيطة به”. فالتجربة بالنسبة للمصادر، تؤكّد على أن “هذه السلطة تمتصّ غضب أصحاب المطالب من خلال إشاعة قبولها بمطالبهم، فتكسب بذلك بطريقتين، الأولى هي تهدئة الشارع، والثانية هي محاولة شق الصفوف عبر خلق نقاش بين أصحاب المطالب، يقوم على قبول بعضهم بالتفاوض وبأخذ ما يُطرَح عليهم لاحقاً، وبين من يرفض ويصرّ على السقف المرفوع، وهنا تبدأ المشكلة، فيدخل أصحاب المطالب بصراع داخلي. لكن هذا الأمر مستبعَد اليوم لأن الأمور وصلت إلى حدّ لا يُحتَمَل، كما أن كثرة الوعود أكّدت للجميع عدم قدرة السلطة على تنفيذ ما تقوله من كلام معسول.
على الورقة والقلم
ما يتم تسريبه إعلامياً ليس سرّاً. فالنسب المئوية المعلنة هي نفسها التي طالبَ بها الموظّفون والمتقاعدون كحدٍّ أدنى يمكن القبول به في حال أرادت الحكومة تقديم شيء ما. لكن في جميع الأحوال، هذه النسب ليست الحل الأمثل. وهو ما يؤكّده أمين سرّ الهيئة الوطنية للعسكريين المتقاعدين، عماد عواضة، الذي يلفت النظر في حديث لـ”المدن”، إلى أن ما يُحكى عن توجّه لدى ميقاتي لإعطاء الموظفين والمتقاعدين نسباً مئوية “لم يُناقَش مع اللجنة المكلّفة من قِبَل العسكريين المتقاعدين. وبالتالي، نحن لم نتبلّغ شيئاً رسمياً بعد”. ويشير عواضة إلى أنه “لا يجوز الحديث عن هذا الموضوع من دون تعيين ميقاتي جلسة مع اللجنة لبحث المطالب وما يمكن أن تقدّمه الحكومة. ولذلك، المطلوب تعيين جلسة يُناقش فيها الملف وتُحَدَّد الأمور على الورقة والقلم، لننطلق مما يتم الاتفاق عليه. فسبق وسمعنا الكثير من الوعود ولم يتحقق منها شيء”.
التشديد على كتابة أي اتفاق، ينطلق من خوف العسكريين المتقاعدين من “تغيير النسب المئوية لاحقاً. فمَن يضمن عدم تقليص النسبة المقترحة من 30 إلى 20 بالمئة مثلاً، في حال قبول العسكريين بالـ30 بالمئة خلال التفاوض؟”.
كما العسكريون المتقاعدون، كذلك موظّفو الإدارات العامة، لم يسمعوا شيئاً رسمياً من الحكومة أو رئيسها في ما يتعلّق بتصحيح الأجور. ويؤكّد عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي القطاع العام ابراهيم نحّال، أن ميقاتي لم يستدعِ الرابطة ولم يقدّم طرحه بشكل رسمي. وفي حديث لـ”المدن”، يقلّل نحّال من أهمية ما يُحكى بشكل غير رسمي حتى وإن كان تسريبات من قِبَل ميقاتي أو الدائرة المحيطة به. لأن “المطلوب هو تصحيح الرواتب والأجور وإدخال كل الحوافز والزيادات في صلب الراتب، كي يتحسَّن المعاش التقاعدي”، وهو مطلب لم يأتِ ميقاتي أو الحكومة على ذكره ونقاشه، بل يتم التركيز على إعطاء بعض الزيادات الإضافية. ولذلك، يجزم نحّال أن “المطلوب هو النظر للعيش الكريم الذي كان يعيشه موظّفو الدولة، وتصحيح أجورهم ورواتبهم التقاعدية لتتلاءم مع العيش الكريم. وما يُحكى عن قبولنا للزيادات بنسب معيّنة، هو نوع من البحصة التي تسند الخابية، لكن سيبقى صوتنا مرفوعاً حتى إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة”.
الثابت في هذا الملف هو أن ميقاتي “لم يعد أمامه خيار سوى الجلوس مع المعنيين، من رابطة موظفي الدولة ولجنة العسكريين المتقاعدين”. وترجّح المصادر أن “رمي أنباء عن قبول ميقاتي بمطالب الموظفين والمتقاعدين أو توجّهه لإعطاء أي زيادات، إنما هو مقدّمة للجلوس مع المعنيين وبحث الأمر، بغضّ النظر عن النسب المئوية التي سيتم الاتفاق عليها. لكن في المبدأ، سيكون هناك اتفاق على زيادة ما. أي أن ما يمرَّر اليوم خلسة، سيُطرَح غداً علانية”.
السؤال الذي يرافق بحث الزيادات، هو من أين ستؤمِّن الحكومة التمويل؟ وهنا، ترى المصادر أن التمويل “ليس بالامر الصعب، فهناك الكثير من الأموال في الأدراج، لكن بدل أن تُعطى لبعض الموظفين المحظيين، توَزَّع على الجميع فتؤجِّل بذلك الحكومة نقاش سلسلة الرتب والرواتب إلى وقتٍ آخر، قد تتحسَّن خلاله الظروف السياسية وتصبح السلطة خلاله قادرة على استقطاب بعض التمويل الخارجي أو فرض زيادات ضريبة تؤمّن تمويلاً إضافياً. وهذا ملفّ مفتوح”.
وعلى قاعدة الحاجة لأكل العنب لا لقتل الناطور، لن يعقِّد الموظفون والمتقاعدون الأمر. أي سيقبلون بزيادات على رواتبهم وسيطالبون بالمزيد. ويُدرك ميقاتي هذ الأمر، سيّما وأنه “قال في إحدى الجلسات مع جزء من أصحاب المطالب، قبل ان يكون رئيساً لحكومة تصريف الأعمال الحالية، أن الولد الذي لا يبكي، لا تطعمه أمّه، فعليكم بالصراخ لأخذ الحقوق”، تقول المصادر.