يعاني القطاع الصحي في لبنان من واقع مأزوم ينسحب على المستشفيات الحكومية التي باتت تعيش أسوأ أيامها، مما ينذر بخروجها من الخدمة الفعالة في حال استمرّ الوضع على ما هو عليه.
وفي تقرير نشرته «الدولية للمعلومات» حول المستشفيات الحكومية في لبنان، أشارت فيه إلى أنّ «تلك المستشفيات تعاني من شغور على صعيد الكوادر البشرية، حيث قدّرت نسبة الشغور بنحو 55.8%، إذ يبلغ العدد الكامل للملاك 8546 موظفاً».
إحصاءات «الدولية للمعلومات»
ومن جهة ثانية، تبيّن للدّولية للمعلومات، أنّ «عددًا من المستشفيات الحكوميّة يستعين بكوادر بشريّة إضافيّة، من خلال عقود خدمات، أو إشغال، أو بأشكال أخرى، ليبلغ عددها في مجموع المستشفيات الحكوميّة نحو 680 شخصاً إضافياً».
ووفق التقرير، «يبلغ عدد المؤسّسات العامّة التي تتولّى عمل المستشفيات الحكوميّة والعاملة فعليّاً لغاية نهاية العام 2022، 33 مستشفى، ويبلغ عدد العاملين فيها من مستخدمين ومتعاقدين وأجراء بشكل رسمي 3829 موظفاً، وكانت تقدّر قيمة رواتبهم الشهريّة في العام 2017 بستة مليارات و238 مليون ليرة، أي بمعدّل 1.5 مليون ليرة لكل عامل. إرتفعت هذه الأرقام، مؤخراً، نتيجة زيادات غلاء المعيشة والزيادة التي أعطيت إلى موظفي القطاع العام، ومن ضمنهم العاملون في المستشفيات الحكومية، ليقارب الاجمالي 27.4 مليار ليرة شهرياً أي نحو 7.15 ملايين ليرة لكل موظف، ما يوازي 112 دولاراً في الشهر، لدى احتساب سعر الصرف على أساس 64 ألف ليرة، وأقل من ذلك على اساس سعر الصرف هذه الأيام. مع الإشارة إلى أنّ هذه الزيادات لم يتقاضاها فعلاً العاملون في عددٍ كبيرٍ من هذه المستشفيات بسبب العجز المالي الذي تعاني منه هذه الأخيرة».
ماذا يقول الحلو؟
في ضوء هذه المعطيات كان لا بد من سؤال أصحاب الشأن، فالتقت صحيفة «نداء الوطن» مدير العناية الطبية في وزارة الصّحة العامّة، الدكتور جوزيف الحلو فقال إن «الوضع الصحي ليس على ما يرام»، هكذا يختصر الدكتور الحلو واقع القطاع الإستشفائي في لبنان في ظل الوضع الحالي، ويقول: «صحيح أن القطاع ليس في أسوأ حالاته، فما زال لدينا أطباء أكفاء وجهاز تمريضي نزيه وكفوء، ولكن وضعنا ليس مريحاً».
ويعتبر أنّ «لبنان لم يعد مستشفى الشرق، فمستوى القطاع الصحي ومنذ بداية الأزمة أي منذ ما يقارب الـ 3 سنوات تدنى بشكل لافت، كنا نتميز بالسياحة الصحية، وكانت المنافسة بين المستشفيات تنحصر الى أي مستشفى سيستقدم الآلة الأحدث، اما اليوم فأصبح أكبر هم للمستشفى كيفية تأمين مادة المازوت».
ويلفت إلى أنّه «خلال السنوات الثلاث الأخيرة، توالت الأزمات على القطاع الصحي حيث بدأت جائحة كورونا والتي أنهكت المستشفيات الحكومية بشكل خاص، ومن ثم تزامن ذلك مع هجرة عدد كبير من الأطباء والجهاز التمريضي على وقع الأزمة المالية التي يمر بها البلد».
لا يمكن الإستمرار على هذا النحو
وإذْ يشير الحلو إلى أنّ «قسماً كبيراً من المستشفيات الحكومية هي بمستوى مقبول إلى جيد، وهي ما زالت تعمل بـ»اللحم الحي»، يسأل، «إلى متى سيمكنها الإستمرار على هذا النحو وهي منذ بداية عام 2022 لغاية اليوم أي ما يقارب السنة والنصف، سواء المستشفيات الحكومية أم الخاصة، لم تتقاض مستحقاتها؟ وهذه المستشفيات تعمل بالمجان، لا يمكن التحمل أكثر، وإذا إستمرينا دون دفع الحقوق، فبالتأكيد نحن ذاهبون إلى الكارثة».
ويضيف، «حتى الأطباء أيضا لم يتقاضوا بدل أتعابهم منذ ما يقارب السنة والنصف، فكيف سيتمكن هذا الطبيب من الإستمرار في ظل وضع إقتصادي صعب على الجميع. لا أحد منا لديه القدرة على التحمل. الجميع لديه مسؤوليات عائلية، وهم بحاجة إلى العيش بكرامة حتى يتمكنوا من الإستمرار، وإلا سنكون في وضع لا أحد يدرك خطورته».
لذا قبل فوات الآوان، يشدد الحلو على ضرورة «أن تتخذ الحكومة مجتمعة قراراً بدفع مستحقات المستشفيات والأطباء، فهذه المسألة حلها ليس عند وزير الصحة، بل المسؤولية تقع على عاتق الحكومة بأكملها».
مشكلة المازوت
ويكشف عن مشكلة جديدة استجدت في بداية الشهر الحالي، حيث يلفت إلى أن «الدولة القطرية دعمت المستشفيات الحكومية وهي مشكورة لمدة 9 أشهر بمادة المازوت، واليوم وتحديداً منذ بداية الشهر إنتهت الكمية المدعومة. نحن اليوم في أزمة، ويحاول وزير الصحة التواصل مع السفير القطري من أجل إعادة تجديد الدعم والمساعدات، لكن السفير لا يمكنه إعطاء جواب قبل مراجعة دولته ليرى إذا كانت ستسمح بتجديد المساعدات أم لا»، ويأمل «حل هذه المسألة بسرعة لأن الوضع سيكون بغاية التأزم».
الدولار الإستشفائي 14 ألف ليرة فقط
كما يلفت إلى «مسألة هامة وهي تتمثل بالعقود بين المستشفيات وكافة الصناديق الضامنة في لبنان»، ويفيد بأن «جميع العقود كانت تُبرم على سعر الـ 1500، ولكن منذ فترة زمنية ليست ببعيدة، عندما كان دولار السوق السوداء يساوي 35 ألف ليرة تقريبا تم رفع التعرفة. إذ قمنا بضربها بـ 8 ونصف، فأصبح الدولار وفق تسعيرتنا يتراوح ما بين 13 و14 ألف ليرة. وإتخذنا هذا الإجراء من أجل دعم المستشفيات ولو قليلاً، ولتخفيف الفروقات على المواطن والمريض. ولكن بعد تطبيق الإجراء بدأ دولار السوق السوداء يأخذ منحى تصاعدياً وبشكل كبير. فهو اليوم يلامس الـ 90 ألف، فإذا ما قارناه بالتسعيرة التي نعتمدها فهي لا تساوي شيئا».
لذا لا يمكن أن نخرج من هذا النفق وفق الحلو «إلا بتوحيد سعر الصرف، وأي حل مؤقت لن يوصل إلى نتيجة ولن يقدم ولا يؤخر».
ورطة كبيرة في وزارة الصحة
ويتطرق الحلو إلى «أمر هام استجد بفعل الأوضاع الإقتصادية»، حيث يذكر أنه «وقبل 3 سنوات كانت وزارة الصحة تتكفل بتطبيب 47 إلى 48% من الشعب اللبناني، أما اليوم قفد تخطت النسبة 70%، فهناك مؤسسات كثيرة أقفلت، ومواطنون كثر تخلوا عن التأمين الخاص».
والخطورة هنا تكمن، وفق ما يوضح الحلو في أنّه «مقابل زيادة نسبة المواطنين الذين يتعالجون على نفقة وزارة الصحة، فإنّ ميزانية الوزارة إنخفضت، حيث كانت قبل 3 سنوات حوالى 330 مليون دولار أي ما يساوي 480 مليار ليرة، أما اليوم فميزانية الوزارة لا تخطى الـ 15 مليون دولار، فكيف سنعمل بهذا الفارق الكبير؟
معضلة هجرة الأطباء والممرضين
معضلة أخرى تواجهها المستشفيات، ويتحدث عنها الحلو وهي «هجرة الأطباء والممرضين»، والتي كان لها الأثر الكبير على المستشفيات الحكومية. إذ أنّ مستشفيات كثيرة إضطرت إلى إغلاق أقسام كبيرة بسبب هجرة عدد من أطباء الإختصاص فيها، إضافة الى هجرة الممرضين الذين يتكامل عملهم مع عمل الأطباء».
ويكشف عن «خسارة لبنان ما يقارب 2500 إلى 3000 طبيب من أصحاب النزاهة والكفاءة العالية، وهذا العدد المسجل لدى وزارة الصحة، وهو عدد لا يستهان به وأثر بشكل كبير على القطاع الإستشفائي».
وهنا يرى أنه «لا يمكننا لوم أي طبيب إتخذ قرار الهجرة. ففي النهاية هو إنسان ولديه مسؤوليات وإلتزامات».
صرخة تحذيرية قبل الإنهيار المدوي
قبل وقوع الكارثة يطلق الحلو، صرخة من أجل «دعم القطاع الصحي وهو القطاع الوحيد الذي ما زال صامداً نسبياً رغم الظروف والتحديات التي تحيط به»، ويشدد على «ضرورة دعم القطاع والعاملين فيه من أي جهة كانت: الدولة أو منظمة الصحة العالمية أوالبنك الدولي. وإلا فلا يمكننا أن نكمل. وسيشهد القطاع الصحي عندها إنهياراً مدويّاً».
يختم الدكتور الحلو حديثة متحسراً على ما آلت إليه الأوضاع، ويقول «نعم وبكل حسرة لبنان لم يعد مستشفى الشرق، ومن يقول غير ذلك فهو مخطئ»، وهنا يُذكّر «بالإحصاء المتعلق بالقطاع الصحي الذي أنجزته وكالة «بلومبرغ» عام 2018 واحتل لبنان فيه المرتبة الأولى على صعيد الشرق الأوسط والمرتبة 28 عالمياً بينما الولايات المتحدة احتلت حينها المرتبة 36»، ويسأل «أما اليوم، أين نحن، وأي درك أوصلونا اليه؟».
ولكن على الرغم من عدم وجود أي ضوء ينبئنا بالخروج من النفق الذي نحن فيه، إلاّ أنّ الحلو يؤكد أنّ «مجرد حل الأوضاع السياسية في البلد، تلقائيّاً ستنفرج الأمور وتنسحب الإنفراجة على كافة القطاعات في البلد، لذا على المسؤولين تدارك الأوضاع وانتخاب رئيس للجمهورية ومن ثم تشكيل حكومة فاعلة تواكب الإصلاحات المالية لتعود الدولة وتسترجع الثقة المحلية والدوليّة».