شكّل العدوان «الإسرائيلي» الأخير على لبنان مادّة دسمة للسجال بين الداعين إلى حياد لبنان وبين الرافضين لفكرة الحياد. بالطبع كل طرف له حججه التي يستخدمها للدفاع عن وجهة نظره، لكن ماذا يقول العلم؟ وهل هناك من تجارب فعلية تُظهر فوائد أو تداعيات الحياد على الاقتصاد خلال فترات النزاعات والحروب؟ الجواب عن هذه الأسئلة هو موضوع هذا المقال الذي يعالجها من وجهة نظر اقتصادية بحت.
مما لا شكّ فيه أن البلد الأول في العالم، الذي يخطر على بال القارئ عند الحديث عن الحياد هو سويسرا. هذا البلد الذي عايش الحروب «مُحايدًا»، التزم أمام عصبة الأمم بـ «المشاركة في أي تدابير تجارية ومالية قد تُتخذ لمعاقبة دولة لا تلتزم باتفاقية عصبة الأمم، لكنه لن يكون ملزمًا بالمشاركة في أي عمل عسكري، أو السماح بمرور القوات الأجنبية أو إعداد العمليات العسكرية على أراضيه». ويُخبرنا التاريخ أنه حتى خمسينيات القرن الماضي، كانت الحروب والأزمات العالمية هي من تُحدّد تطور الاقتصاد وسياسة الحياد السويسرية.
فاستنادًا إلى الاعتراف الدولي بحياد سويسرا الدائم، انضمت هذه الأخيرة إلى عصبة الأمم مع تأكيدها على «الحياد التفاضلي» الذي استمر حتى عام 1938. ولكن، اعتبارًا من عام 1936، وبعد غزو إيطاليا الفاشية لإثيوبيا، بدأت سويسرا في التراجع عن التزاماتها، ولم تُطبق العقوبات الاقتصادية بشكل كبير.
في هذه المرحلة، كانت أوساط الأعمال بالتعاون مع السلطات السياسية هي من تُدير العلاقات الاقتصادية الخارجية لسويسرا، خصوصًا في المفاوضات مع الدول الأجنبية التي كانت تطلب منتجات متخصصة وتسهيلات مالية يُنتجها الاقتصاد السويسري. هذا الأخير وبفضل قدراته الصناعية وموارده المصرفية الكبيرة، استطاع النجاح وعزّز من ازدهار سويسرا. واستخدم رجال الأعمال أدوات الديبلوماسية، وقاموا في بعض الأحيان باللجوء إلى الفساد لتحقيق أهدافهم (مثل تجنّب الازدواج الضريبي مع فرنسا في العام 1937).
في هذا الإطار، كان الحياد يشكّل ميزة من باب التوسع الاقتصادي وزيادة التجارة مع الخارج، ولكنه شكّل مشكلة من باب صعوبة تحديد ما هو الحياد الاقتصادي. فالحياد هو بالدرجة الأولى عسكري وسياسي من باب عدم التدخّل بشؤون الدول الأخرى، وعدم المشاركة في حرب تُخاض ضدّ دول أخرى. وبالتالي، ماذا يعني الحياد في زمن السلم وأثناء الحروب خصوصا للّاعبين الاقتصاديين؟
الأسس العملية التي تقف خلف الحياد موجودة وواضحة في علم الاقتصاد. فالعلاقة الإيجابية بين الحياد والنمو الاقتصادي يمكن تبريرها من خلال الاقتصاد المؤسسي والديبلوماسية الاقتصادية والاقتصاد السياسي الدولي والنظرية الشومبترية:
– أولًا : من باب الاقتصاد المؤسسي: تنصّ نظرية المؤسسات لـ «دوغلاس نورث» على أن استقرار المؤسسات يقلل من تكاليف المعاملات، ويخلق بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي. وفي حال حياد البلد، يعمل الحياد كـ «مؤسسة استقرار»، وهو ما يسمح بالحفاظ على التجارة والعلاقات المالية مع مختلف الأطراف خلال النزاعات العالمية. وفي حال سويسرا، جذب هذا الاستقرار رؤوس الأموال الأجنبية، بالتوازي مع إنشاء مؤسسات مالية قوية، جعل من سويسرا مركزا ماليا دوليا، بحسب دوغلاس نورث. أضف إلى ذلك، فإن الالتزام الطويل بالحياد يخلق إرثًا من الاستقرار، والصدقية تُعزّز ثقة المستثمرين والشركاء التجاريين، كما تنص عليه نظرية الاعتماد على المسار.
– ثانيًا : من باب الاقتصاد السياسي الدولي: يسمح مفهوم الحياد الاقتصادي في أدبيات الاقتصاد السياسي الدولي بإمكان الدول المحايدة الاستفادة اقتصاديا من البقاء غير منحازة خلال النزاعات. ووفقا لـ «روبرت كيوهان»، يمكن للدول الصغيرة أن تستغل الحياد لتجنب الضغوط المتعلقة بالانحياز السياسي، وبدلاً من ذلك يمكنها أن تكون ملاذًا آمنًا لرؤوس الأموال، وفي الوقت نفسه الاستفادة من اقتصادات الحرب من خلال تقديم السلع والخدمات المالية لطرفي النزاع. وهذا ما تؤكّده نظرية استقرار الهيمنة، التي تنصّ على أن الاقتصاد العالمي يستفيد من البيئات المستقرة التي تقلل من المخاطر. وهو حال سويسرا خلال الحرب حيث أدت دورا كبيرا كوسيط مالي، واستفادت من تدفق رؤوس الأموال، بينما قدمت الاستقرار لاقتصادات أخرى من خلال الخدمات المصرفية التي كانت تؤمنها.
– ثالثًا : من باب الديبلوماسية الاقتصادية والنمو عبر التجارة: تنصّ الديبلوماسية الاقتصادية على استراتيجيات وإجراءات تُستخدم في العلاقات التجارية والمالية الدولية لتعزيز مصالح الدول الاقتصادية. وهو ما تؤكّده نظرية الشبكات التي تفترض أن الدول المتكاملة في شبكات دولية متنوعة تستفيد اقتصاديا. وقد اقترح «ديفيد ميتيراني» في أبحاثه عن النهج الوظيفي في العلاقات الدولية، أن الدول تُعطي الأولوية للتكامل الاقتصادي، لتعزيز الاستقرار والحفاظ على العلاقات الاقتصادية عبر قنوات التجارة والقروض والاستثمار، وهو ما يضمن الازدهار والنمو الاقتصادي بغض النظر عن التحالفات السياسية القائمة.
– رابعا : من باب النمو الشومبتري والابتكار: تنصّ نظرية النمو لـ «جوزيف شومبيتر» على أن الابتكار وتراكم رأس المال، هما محركان أساسيان للنمو على المدى الطويل، مع التركيز على الابتكار المالي وتطوير خدمات مصرفية متخصصة. وهو ما اتبعته سويسرا بالتحديد حيث استفاد القطاع المصرفي السويسري من الطلب على الخدمات المالية الآمنة، والمحايدة خلال فترات الحرب. وبالتالي أدى هذا الأمر إلى ابتكار منتجات وخدمات مالية جديدة جذبت رؤوس الأموال الأجنبية، وأدت دورا حيويا في نمو الاقتصاد السويسري على مر الوقت.
إذًا ومما تقدّم، نرى أن الحياد ليس مجرد موقف سياسي، بل هو موقف مفيد اقتصاديا، يؤدّي إلى دعم الاستقرار المؤسسي والمرونة الديبلوماسية والابتكار المالي، كما تُثبته الحالة السويسرية حيث نما الاقتصاد السويسري خلال فترات عدم الاستقرار العالمي.
وفي حال لبنان، يعاني الاقتصاد من ضعف كبير، نتيجة الإدارة السيئة للموارد الاقتصادية وتفشّي آفة الفساد. وأتت الحرب الحالية لتزيد من الخسائر الاقتصادية، حيث من المرجّح أن تمتدّ تداعياتها إلى عقود. من هنا ضرورة العمل على تأمين الاستقرار المؤسسي اللازم وعلى زيادة كمية عوامل الإنتاج وزيادة نوعيتها عبر استخدام التقدم التقني في الماكينة الاقتصادية، لأنه يزيد من إنتاجية عوامل الإنتاج. ولكن الحياد قد يكون ممرًّا إلزاميًا لهذا الاستقرار المؤسسي، فهل يستطيع العلم توحيد ما فرّقته السياسة في لبنان؟