ليس أمراً عادياً ما حصل أمس. الادعاء على حاكم مصرف لبنان يمثل علامة فارقة في مسيرة المحاسبة القضائية في لبنان. ما فعله القاضي رجا حاموش كان يفترض أن يقوم به قضاة آخرون قبل أكثر من سنة. لكن بعضهم خاف أو خضع أو تورط في ما هو غير معروف، وهرب من القيام بواجباته البسيطة. وإذا كانت الشكوك ستستمر حول مسار القضية بعد إحالتها إلى قاضي التحقيق، فإن ذلك لا يلغي حقائق أساسية:
أولاً، لقد قدم القاضي جان طنوس نموذجاً احترافياً رفيع المستوى في متابعته لهذا الملف، ليس فقط في ملاحقة من يجب الاستماع إليهم، بل بعدم الابتعاد عن لب القضية المتعلقة بحماية المال العام، ولم يقبل في كل مراحل التحقيقات الخضوع لنمط العلاقات السيئة التي تحكم القضاء بالحاكمين من سياسيين ورجال أعمال ومال وأجهزة أمنية. وطنوس نفسه، الذي عرف كيف يستعين بعصا القضاء الدولي، لم يقبل تدخل القضاء الأوروبي في عمله، ولم يوافق يوماً على أي خطوة من شأنها تشريع الأبواب أمام تدخل خارجي يقود إلى هيمنة أو وصاية دولية مرغوبة من قبل قضاة قبل أن تكون مطلوبة من سياسيين وحتى من مواطنين. ما قام به طنوس على مدى شهور طويلة، تحول إلى مثل يمكن لمن يرغب من القضاة الأخذ به في مواجهة كثير من الملفات الشائكة التي لا تزال حبيسة الأدراج، وأبرزها سرقة العصر المتمثلة بشركة سوليدير وأفعالها، وهو الملف الأكثر حساسية من ملف الحاكم، لكنه بقي أسير الحسابات والمداخلات السياسية وأسير موقف لا يزال غير مبرر من قبل النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم.
ثانياً: صحيح أن النيابات العامة تخضع بشكل أو آخر لتأثيرات السلطة التنفيذية، وصحيح أيضاً أن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تعرض لضغوط مباشرة، من رؤساء ومرجعيات روحية واقتصادية وحتى من جهات ديبلوماسية، وقد أظهر بعد التردد في مراحل سابقة، خصوصاً عندما وافق على تعطيل عمل القاضي طنوس بطلب من الرئيس نجيب ميقاتي. إلا أن عويدات يعرف بخبرته أنه لا مجال لإخفاء معالم جريمة بهذا الحجم، وعندما كان يقتنع يوماً بعد يوم بما يفعله القاضي طنوس، كان يقتنع أكثر فأكثر بضرورة القيام بخطوة عملانية. وعندما تسلم ملف الادعاء من طنوس بادر إلى الطلب من القاضي زياد أبو حيدر تنفيذ أمر الادعاء على سلامة، لكن الأخير، الذي ظهر منحازاً في ملفات كثيرة، سارع إلى الهروب من الواجب الوطني والمهني والأخلاقي، قبل أن يعود الملف إلى القاضي حاموش، الذي تعرض بدوره لضغوط وحملات مكتومة، أريد منها اتهامه بأنه سيخضع وسيتهرب من المهمة، قبل أن يقوم بما قام به أمس.
ثالثاً: إن سابقة الادعاء على حاكم مصرف لبنان في لبنان تسجل حتى ولو كان كل ما يحصل يهدف إلى إعادة لملمة الملف بحجة أو من دونها. لكن العبرة هي أن الحاكم الذي بات محل اشتباه رسمي من قبل هيئات قضائية، في لبنان وأوروبا، لا يزال يجد نفسه في موقع القادر على كسر الملاحقة القانونية، وهو وإن عبر عن اعتراضه وإيمانه ببراءته، إلا أن «شجاعته» تبقى محصورة في عدم الإذعان لصوت الناس والقضاء. وما عليه سوى الخروج من منصبه من تلقاء نفسه، والذهاب إلى منزله بانتظار استكمال التحقيقات معه، ومن المفيد هنا، أن يعلم سلامة بأن أي خطوة يقوم بها ابتداء من اليوم، ستكون محل تشكيك حتى ولو قرر إعادة الأموال المتهم باختلاسها.
رابعاً: يعرف اللبنانيون أن السلطات التشريعية والتنفيذية في لبنان ليست سعيدة بالخطوة، إذ إن الادعاء أصاب شريكاً أساسياً لهم خلال ثلاثين سنة. وهو القلق نفسه الذي ينتاب قسماً غير قليل من العاملين في القطاع المصرفي، وآخرين يعملون في السياسة والتجارة والإعلام. لكن، هذا التحالف، الذي يضم أيضاً بعض «ثوار السفارات»، لا يمكنه أن يتجاهل الأمر، وإن كنا نتوقع أن يتصرف هؤلاء بغباء وإنكار، وأن يعمدوا إلى مساعدة سلامة ليس على البقاء في منصبه الآن، بل على التجديد له إن أمكن، وعلى منع محاكمته أيضاً.
خامساً: ما قام به القضاء أمس، يجب أن يكون رسالة إلى القضاء الأوروبي، ومن خلفه الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية، بأنه لا يمكن التصرف مع اللبنانيين على أنهم كلهم على شاكلة حلفائهم أو أزلامهم في لبنان، وبدل أن يدخلوا البلاد في كذبة جديدة مثل المحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري، يجب أن يعمدوا إلى تقديم كل ما لديهم – ولديهم الكثير الكثير – من المعطيات والأدلة التي تدين سلامة ليس فقط في جريمة تبييض أموال يشتبه في أنه اختلسها من المال العام في لبنان، بل من خلال إشهار هوية شركائه من الدول الأوروبية نفسها، وعلى هؤلاء مساعدة القضاء في لبنان على إنجاز مهمته، لا العمل على احتوائه من أجل فرض الوصاية والفوقية وما هو أبعد من ذلك.
لا أحد في هذه البلاد، يمكنه الحصول على جواب شاف حول ما إذا كان سلامة سيتنحى من تلقاء نفسه عن مهامه حتى ينتهي التحقيق، لكن الأكيد، أنه بات علينا جميعاً، التعامل معه من الآن فصاعداً على أنه مشتبه فيه في اختلاس مال بيت مال اللبنانيين، بالتالي، لا يجب السكوت بعد على بقائه مشرفاً على بيت المال هذا لحظة واحدة…
رياض سلامة…رجاء ارحل!