الخوارزميات تثير الجدل حول حقوق الملكية وبراءات الاختراع

من اللوحات الفنية إلى المعزوفات الموسيقية مرورا بكتابة المقالات والشعر، أصبحت مشاركة الخوارزميات في عملية الإبداع الفني والتأليف والاختراعات حقيقة ماثلة. ولكن، ما لم يحسم بعد هو من يمتلك براءة الاختراع وحقوق الطباعة والنشر لتلك الأعمال؟

في أغسطس الماضي قدم خبراء المعهد الأميركي للفيزياء طلبا لتسجيل اختراعين نيابة عن ستيفن ثيلر الرئيس التنفيذي لشركة “إيماجينيشن إنجنز”، وبدلا من وضع اسم مخترع بشري على الطلبين، وضع اسم “دابوس إيه.آي”، وهو نظام ذكاء اصطناعي أمضى ثيلر أكثر من عقد في بنائه وتطويره، وقد توصل دابوس إلى الاختراعين بعد تلقينه بمعلومات حول مواضيع متعددة كثيرة.

ورغم أن ثيلر هو من قام بتصميم دابوس، إلا أنه لا يتمتع بأي خبرة تؤهله لابتكار الاختراعين، وما كان له أن يتوصل لهذين الاختراعين لولا الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. ولهذا السبب يعتقد فريق المعهد أن دابوس هو المبتكر الحقيقي.

المبتكر الحقيقي

يطرح المثال أعلاه مشكلة أراد ريان أبوت حلها؛ وأبوت هو واحد من فريق محامين يعملون ضمن مشروع أطلق عليه اسم “المخترع الصناعي”.

كتابة وثيقة على برنامج وورد، لن تجعل من برنامج وورد مؤلفا، وصياغة جدول على برنامج إكسل، لن تجعل من إكسل مخترعا؛ هذا ما يؤكده أبوت الذي يضيف أن “هناك بعض الحالات التي يجب أن نعتبر فيها المخترع هو البرنامج أو الخوارزمية”.

وغالبا ما يمثل الذكاء الاصطناعي أداة تساعد المخترعين والمبدعين، كما هو الحال مثلا في مجموعات البيانات العملاقة التي تساعد في العثور على أدوية وعلاجات أو اكتشاف مواد جديدة. ولكن، يتساءل أبوت ماذا سيحدث في الحالات التي يكون فيها الذكاء الاصطناعي مسؤولا بالكامل عن الاختراع أو الابتكار أو تنفيذ العمل الإبداعي؟

في نهاية يناير 2020 أطلقت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) العدد الأول من سلسلة أبحاث جديدة تحت عنوان “الاتجاهات التكنولوجية”، مركزة على الذكاء الاصطناعي. وتقول المنظمة إن التكنولوجيا، التي وصفتها بالثورية، آخذة بالانتشار، وهي تترك آثارا عميقة في جميع مجالات الحياة.

وقبيل موعد النشر، عرض المدير العام للويبو، فرانسيس غري، وجهة نظره بشأن آثار الذكاء الاصطناعي على القوانين والسياسات المتعلقة بالملكية الفكرية، إضافة إلى اعتماده في إدارة أنظمة الملكية الفكرية.

وكما يؤكد غري، من الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على مفاهيم الملكية الفكرية التقليدية. وليست الموسيقى التي أنتجتها الخوارزميات، أو الاختراعات التي ابتكرتها ببعيدة عنا، وهو ما قد يغير مفاهيم “الملحن” و”المؤلف” و”المخترع”؛ وإن كانت الكيفية التي سيتم بها ذلك لم تتضح تماما بعد.

ولطالما كانت الأهداف الأساسية لنظام الملكية الفكرية هي تشجيع التكنولوجيات الجديدة والأعمال الإبداعية، وإنشاء قاعدة اقتصادية مستدامة للاختراع والإبداع. وليس ثمة ما يحول اليوم دون استخدام قوانين الملكية الفكرية لمكافأة الابتكارات أو الإبداعات التي أنتجها الذكاء الاصطناعي، لكن هذا الأمر يتطلب تفكيرا مليا، وليست هناك كما يقول غري إجابات واضحة بعد.

ما هو مؤكد أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع سيؤدي إلى تغيير مفاهيم الملكية الفكرية والتصاميم والأعمال الأدبية والفنية، وغيرها. وهذا يحدث بالفعل. لكن، نتيجة الاقتصاد الرقمي وليس نتيجة للذكاء الاصطناعي وحده.

على سبيل المثال، تولد علوم الحياة كميات هائلة من البيانات التي لا اختلاف على أهميتها، لكنها رغم ذلك لا تشكل اختراعا بالمعنى التقليدي، وبالتالي يتعين علينا تحديد الحقوق والالتزامات المترتبة عليها.

ليست مجرد لعبة

تؤيد الحركات الداعية إلى فتح مصادر العلوم والبيانات، وجهة النظر القائلة إن البيانات لا يجب أن تحتوي على فئات مسجلة الملكية. وترى أن البيانات، التي هي عماد الذكاء الاصطناعي، يجب أن تكون متاحة دون قيود لتمكن المبرمجين والمخترعين من تطوير الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الأخرى التابعة له.

في الواقع، قد يصعب الذكاء الاصطناعي مهمة حفاظ المبدعين على حقوقهم. إذا أخذنا مثلا الموسيقى التي أنتجها الذكاء الاصطناعي، في مرحلة ما من مراحل هذه العملية، سيجري إدخال العبارات الرقمية للموسيقى التي أنتجها المؤلف الموسيقي، سواء أكان موزارت أو بيتهوفن أو موسيقيا معاصرا، في خوارزمية الذكاء الاصطناعي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو في أي مرحلة ننسب قيمة ما أنتج فنيا إلى البيانات؟

حتى الآن ليست هناك إجابة على هذا السؤال.

هناك اليوم مجرد محاولات لاستحداث نُهُج سياساتية مختلفة للبيانات والذكاء الاصطناعي، تشمل قضايا تتعلق بأمن البيانات وسلامتها، وتأثير البيانات والذكاء الاصطناعي على التنافس في الأسواق وعلى الأمن القومي والعمالة والملكية.

وكان اختصاصيو قانون الملكية (IP) قد ناقشوا منذ منتصف ستينات القرن الماضي إمكانية معاملة أجهزة الكمبيوتر والبرامج التابعة له معاملة “المؤلف” وبالتالي أن تكون إنتاجاتها محمية بحقوق الطباعة والنشر.

وفي منتصف السبعينات أصدر الكونغرس الأميركي قرارا بتشكيل لجنة خاصة بشأن الاستخدامات التكنولوجية الجديدة للأعمال المحمية بحقوق الطبع والنشر لمعالجة هذا الموضوع وبعض القضايا الأخرى المتعلقة بالكمبيوتر.

واندلعت موجة ثانية من الاهتمام بنتاج التكنولوجيا الرقمية في منتصف الثمانينات، حيث كلف الكونغرس مرة أخرى بإجراء دراسة، هذه المرة من قبل مكتب تقييم التكنولوجيا (OTA)، لمعالجة هذه القضية وغيرها من القضايا المثيرة للجدل.

رامبرانت التالي

لم يقدم المكتب المكلف إجابة وافية على السؤال، لأن الأمر في ذلك الوقت، كان مجرد “لعبة”، ولم يتم بعد إنتاج أعمال مهمة تجاريا من قبل برامج الكومبيوتر. لكن التعلم العميق واختراقات الخوارزميات الأخرى دفعا المسؤولين عن قضايا الملكية الفكرية إلى إعادة التفكير في إنتاجات الذكاء الاصطناعي.

وكل شيء بدأ مع اللوحة المعروفة باسم “رامبرانت التالي” The Next Rembrandt، وهي لوحة أنتجت اعتمادا على الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتم تطويرها بواسطة خوارزمية التعرف على الوجه وذلك باعتماد بيانات 346 لوحة معروفة للرسام الهولندي، في عملية استمرت 18 شهرا.

تتكون اللوحة من 148 مليون بكسل وتستند إلى 168263 جزءا من أعمال رامبرانت المخزنة في قاعدة بيانات مصممة لهذا الغرض.

وتبدو اللوحة، حتى للعين الخبيرة، مطابقة تماما لأسلوب رامبرانت في الرسم واستخدام اللون. وهي لرجل ملتح يعتمر قبعة وينظر إلى اليمين.

ما هو مؤكد اليوم أن لحظة إنتاج اللوحة أصبحت علامة فارقة، ستترتب عليها تساؤلات حول حقوق الطباعة والنشر لمخرجات الذكاء الاصطناعي، فهي منذ تلك اللحظة لم تعد مجرد مشكلة بسيطة يمكن تجاهلها والاستخفاف بها.

هذه القضية المعضلة، يختلف النظر إليها من دولة إلى أخرى. في المملكة المتحدة ونيوزيلندا، ستكون اللوحة محمية بحقوق الطباعة والنشر، لأن هاتين الدولتين أصدرتا قوانين تسمح بذلك منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، ولكن يبقى السؤال مفتوحا في الولايات المتحدة ومعها معظم دول العالم.

في فبراير 2020، عقد مكتب حقوق الطبع والنشر الأميركي والمنظمة العالمية لقانون الملكية الفكرية (ويبو) مؤتمرا في واشنطن العاصمة، للنظر في كيفية تطبيق حقوق النشر على مخرجات الذكاء الاصطناعي. وتم البت في أولى القضايا المرفوعة بشأن حقوق النشر في مخرجات الذكاء الاصطناعي في الصين.

وكان تقرير قد خلص عام 1979 إلى أنه “لا يوجد أساس معقول للاعتقاد بأن الكمبيوتر يسهم بأي شكل من الأشكال في تأليف عمل تم إنتاجه من خلال استخدامه”. واعتبرت أجهزة الكمبيوتر وبرامج الكمبيوتر مجرد أدوات يمكن من خلالها إنتاج الأعمال، مثلها في ذلك مثل الكاميرات التي تستخدم لالتقاط صور محمية بحقوق النشر.

ورفض مكتب حقوق الطبع والنشر بالولايات المتحدة في الماضي مطالبات حقوق الطبع والنشر في بعض الأعمال التي تم إنشاؤها آليا.

مثالا على ذلك، رفضه تسجيل حق الطباعة والنشر لنسخة ملونة تم إنشاؤها بواسطة البرامج لفيلم عرض أصلا باللونين الأبيض والأسود. ورفض أيضا تسجيل للوحة تضمنت ألوانا متناثرة تم إنشاؤها آليا على قماش، وكانت تشبه في تقنيتها أعمال رائد التجريد التعبيري الفنان الأميركي جاكسون بولوك.

وكرر المكتب مؤخرا موقفه القانوني بشأن هذه المسألة قائلا “يمكن حماية حقوق الطبع والنشر للأعمال التي أنشأها الإنسان فقط، بموجب قانون الولايات المتحدة، الذي يستبعد الصور والأعمال الفنية التي أنشأتها الحيوانات أو الآلات دون تدخل بشري”.

وتفسر الحاجة إلى تواجد العنصر البشري أيضا سبب رفض المكتب تسجيل مطالبة بحقوق النشر في صورة شخصية لقرد. وكان مصور الطبيعة البريطاني ديفيد سلاتر قد استخدم كاميرته في حديقة للحياة البرية بطريقة مكنت قرد المكاك المتوج (المعروف باسم ناروتو) من التقاط صور لنفسه وهو يبتسم. وادعى سلاتر حقوق النشر في صور ناروتو بسبب تنظيمه الإبداعي للكاميرا والإعدادات.

وعندما ظهرت بعض نسخ الصور على مواقع الإنترنت، ادعى سلاتر أن هذا يعد انتهاكا. إلا أن القاضي رفض الدعوة معللا ذلك بغياب العنصر البشري، وبالتالي أصبحت الصور متاحة للجميع. وأكدت محكمة الاستئناف رفض الدعوى.

وتمت كتابة العشرات من المقالات التي جادل أصحابها قضية حقوق الطبع والنشر للأعمال التي تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر ومسألة تأليف الذكاء الاصطناعي.

من يحسم الجدل؟

يقول البعض إن الأعمال التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي هي ملكية عامة. بينما يقول البعض الآخر إن الشخص أو الشركة التي كتبت برنامج الذكاء الاصطناعي يجب أن تحصل على حقوق النشر في أي مخرجات محمية بحقوق النشر. وهناك من يقترح أن يتشارك كل من المبرمج والمستخدم بملكية الحقوق لأي مخرجات تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي.

برمجيات الذكاء الاصطناعي ليست، كما يعتقد بعض المعلقين، صندوقا أسود تُدخل البيانات من طرف لتخرج الإبداعات من طرف آخر. يحتوي برنامج الذكاء الاصطناعي على العديد من المكونات، التي لا تأتي جميعها من نفس المصدر غالبا؛ هناك بيانات التدريب، والوزن الذي يجب إعطاؤه لمعايير مختلفة، ونماذج لتوليد المخرجات أو أجزاء معينة، والخوارزميات المستخدمة لتحليل البيانات، والبرامج التي تنفذ التعليمات. من المهم أيضا ذكر مبرمجي الذكاء الاصطناعي الذين يقومون بضبط عناصر المكونات هذه لتحقيق النتائج المرجوة.

بناء على ذلك، يجادل البعض بأن المستخدم المسؤول عن توليد النتائج، هو الأحق بملكية حقوق المخرجات، فهو من اكتشف القيمة التجارية المحتملة للمخرجات، وهو في الموقع الأفضل لتقييم قيمة تلك الأعمال واستغلالها تجاريا. وغالبا ما يكون المستخدم قد قام بتكييف المخرجات أو إعادة ترتيبها أو تحريرها أو تعديلها بطريقة أخرى لجعلها مناسبة للتسويق.

وإذا كان هناك شخص يستحق حوافز حقوق التأليف والنشر لقيامه بأخذ المخرجات الأولية وتكييفها للنشر التجاري، فهو ذلك المستخدم. إلى جانب ذلك، سيكون المستخدم قد دفع بالفعل لمالك مكونات برامج الذكاء الاصطناعي مقابل حق استخدامها لتوليد المخرجات.

وأخيرا، يجادل أنصار مستخدمي الذكاء الاصطناعي، هل هناك طريقة يستطيع من خلالها مكتب حقوق الطبع والنشر أو القضاة التمييز بواسطتها بين المخرجات التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي وتلك التي أنشأها البشر؟

فقط الوقت هو الذي سيحدد الإجابة النهائية التي يقررها المشرعون والمحاكم لحل هذا الجدل الطويل.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةالجزائر تراهن على تعزيز القطاع التجاري لدفع الاقتصاد
المقالة القادمةأوبل كروسلاند 2021 تظهر بحلة مميزة