“الدعم” يشرّع حكم البلد بمنطق “السوق السوداء”

قد يكون مفهوماً أن تتحول المحروقات المدعومة، إلى سوق سوداء؛ ولو كان الأمر غير مقبول. إنما أن يجري التلاعب بـ”لقمة” خبز الفقير بين “كارتلات” المحروقات والمطاحن والأفران بخفةٍ غير معهودة، ففي الأمر تخطٍ لكل حدود المنطق والفهم. فعلى الرغم من استمرار دعم مكونات الرغيف الأساسية بنسبة 50 في المئة للمازوت، و100 في المئة للطحين، فقد ارتفع سعر ربطة الخبز إلى 4500 ليرة من الفرن إلى المستهلك. ومع هذا فان الخبز غير متوفر في الكثير من الأفران، ويباع خارجها في السوق السوداء بسعر يصل إلى 10 آلاف ليرة للربطة زنة 950 غراماً.

بين ما تدعيه الأفران من شرائها المازوت بسعر السوق السوداء بأضعاف السعر الرسمي، وتقنين بعض المطاحن بتسليم الطحين بسبب الشح في المحروقات، و”استمرار تهريب الطحين المدعوم بنسبة 100 في المئة”، باعتراف وزارة الإقتصاد، “ضاعت الطاسة” وعجز كثيرون عن الوصول إلى الحد الأدنى من الغذاء. الأمر الذي دفع بوزارة الإقتصاد إلى الإقرار في بيان عن “ضبط العديد من عمليات الاحتكار للطحين المدعوم، حيث ثبت وجود سوق موازية له، يباع من خلالها الطحين والخبز بأسعار أعلى من السعر الرسمي”.

إجراءات وزارة الإقتصاد مع الأفران والمطاحن والموزعين لضبط التهريب تبقى ناقصة. فـ”ثلم” الاحتكار والبيع في السوق السوداء “الأعوج”، مردّه لـ”ثور” الدعم الكبير. وطالما الدعم مستمر لن تتوقف كل عمليات الإحتيال والغش، خصوصاً “إذا كان نظام الحوكمة سيئاً وفاسداً، ويمثل جزءاً من بنية السوق السوداء”، بحسب الكاتب في الإقتصاد السياسي د. بيار الخوري، “عندها يضرب بالقوانين عرض الحائط، ويتم التغاضي عن المخالفات في سبيل التشجيع للذهاب أكثر إلى السوق السوداء”. هذه المشكلة التي تميز السوق السوداء في دول العالم الثالث، برزت بشكل فاقع وبأبشع أشكالها في لبنان منذ بدء الإنهيار”، يقول خوري، “حيث يلاحظ أن كل أجهزة التنظيم والرقابة الرسمية مستقيلة من دورها الفعلي. استسلام لمسناه في المرحلة الأولى من الأزمة، عندما بدأت الإشكالات في المصارف، حتى وصلنا اليوم إلى الخلافات على محطات البنزين والأفران… وغيرها مؤسسات كثيرة مستفيدة من الدعم. وهو ما يمثل جزءاً من مفهوم غياب المؤسسة العامة”.

إذا كانت ظاهرة السوق السوداء تحدث في الكثير من الدول، فان كيفية التعاطي معها هو ما يصنع الفرق. في لبنان “شُرّع البلد لمنطق السوق السوداء”، برأي خوري. و”قد خلقت هذه السوق فئة من المستفيدين المنتهزين ونظام أسعار، بسطا سلطتهما على كل البلد وكأننا نمهد لنقول إن الناظم لعلاقات الناس الإقتصادية أصبح “المافيوزي”. ولا فرق هنا إن كان الانتهازي هو “قبضاي” الحي، أو “أزعر” الشارع، أو حتى ذلك الذي يجلس في شركة خلف مكتب. لقد أخذ دور الدولة ومكانها، وتملّك قدرة على النمو وخلق شبكة مصالح أوسع في كل المؤسسات الخاصة والعامة وصولاً لاستغلال الأكثر فقراً. وعليه فان السوق السوداء أصبحت تشكل آلية قائمة بحد ذاتها للدورة الإقتصادية وهذا أخطر ما نواجهه”.

الحل يكمن بالعودة إلى مبادئ الإقتصاد الأولية عبر رفع الدعم عن السلع ودعم الأفراد بشكل مباشر، وهذا ما يبدو لغاية اللحظة “حلماً” صعب المنال؛ وإن قدر له أن يتحول إلى حقيقة فمن المتوقع أن يكون مشوهاً، وبعد فوات الأوان في جميع الأحوال.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةالسوق السوداء “تستعر” ونار المحروقات تهدّد بانهيار كامل للاقتصاد
المقالة القادمةالأشقر: كلفة خدمات الفنادق ترتفع 15%