ثمة ظاهرة شائعة في لبنان اليوم هي الجوع للدولار، فتكاد لا تجد احدا لا يلهث خلف الحصول على العملة الاميركية باي طريقة ممكنة.
الصيارفة يشترون الدولار ولا يبيعونه، والمصارف لا تلبي طلبات زبائنهم بسحب الدولارات من حساباتهم، ومصرف لبنان يصدر التعميم تلو الآخر ليجمع ما توفر من العملة الخضراء من السوق.
يستطيع اي مواطن ان يرى السلوك الغريب للصرافين في الآونة الاخيرة، والكثير منهم شهد كيف ان الصراف يشتري كل ما يعرض عليه من دولارات وباسعار غالبا ما تكون مضخمة، اي انها تتجاوز بكثير السعر الرسمي 1500 ليرة الاساسي او الاسعار اللاحقة التي حددها مصرف لبنان كحد اقصى اي 2000 ليرة ثم 3200 ليرة.
المواطنون وجدوا في تحديد سعر اعلى لبيع الدولار نكبة حقيقية لهم، فاذا توفر لديهم مبلغ ما بالعملة الاميركية وارادوا بيعه للحصول على الليرة بهدف شراء حاجات اساسية، حاججهم الصراف بان السعر محدد من قبل الدولة، اما اذا ارادوا شراءه فلا يجدونه، او يشترونه بسعر مرتفع للغاية، ولا حد اعلى للسعر، كما تنص تعاميم المركزي .
تجربة تحديد سعر معين في السوق الموازي من قبل مصرف لبنان فشلت فشلا ذريعا، وانفلت السوق اكثر فاكثر، الى ان تكشف انه حتى بعض دوائر “المركزي” تورطت في شراء دولارات باسعار باهظة، وهذا ما بينته التحقيقات التي اجراها القضاء، بحيث تم توقيف مسؤولين في مصرف لبنان وعشرات الصرافين المرخصين.
لا نعالج هذه المسالة الآن، لان هذه القضية لا تزال في عهدة القضاء. وباعتقادنا اننا لن نعرف حقيقة ما جرى مع هؤلاء الموقوفين او الملاحقين، وعلى الاغلب ستتنهي هذه القضية بتدخلات سياسية . ولكن ما يهمنا من القصة انها مثال آخر على فشلت الادارة الرسمية لازمة الدولار.
مثال آخر يتعلق بالتحويلات الالكترونية للدولارات من الخارج ، فقد امتنعت شركات التحويل في البداية عن تسليم المبالغ المحولة الى اصحابها بالدولار، وارادت تحويلها لليرة بالسعر الرسمي، اي 1500 ليرة للدولار، وهذه كانت عملية سرقة موصوفة، لان العملة الخضراء كانت قد بلغت مستوى يفوق الالفي ليرة، يومها تدخل مصرف لبنان واجبر تلك الشركات على تسديد المبالغ المحولة بالدولار او بالعملات الصعبة. وكانت تلك خطوة ايجابية ، ولكن بعد اقل من شهرين اكتشف مصرف لبنان ان باستطاعته الاستفادة من هذه الدولارات وهي fresh money، لتعزيز احتياطاته من العملات الصعبة ، فوضع آلية تقضي بتسليم هذه الحوالات الى اصحابها بالليرة اللبنانية بسعر 3200 ليرة للدولار، وهو سعر يتغير حسب اعلان يومي صادر عن المركزي. ولا شك ان هذا التدبير يعتبر متقدما على ما سبق وفعلته شركات التحويل من فرض سعر الـ1500، ولكنه ايضا مجحف الى حد كبير لاصحاب الحوالات ، وخصوصا ان السعر الحقيقي للدولار يبقى ثابتا عند حدود الاربعة الاف ليرة.
هذا التدبير يمكن ان يؤمن لمصرف لبنان 100 مليون دولار هي قيمة التحويلات، والتي سيسددها بالليرة اللبنانية، لان شركات التحويل ملزمة بتسليمها له. ولكن هل هذا ما يحصل فعلا؟
لا احد يعرف تماما الاجابة على هذا السؤال، وخصوصا ان الكثير من اللبنانيين في الخارج باتوا يترددون في ارسال الاموال بهذه الطريقة ، وقد يجدون سبلا اخرى. اما الخوف الابرز فهو من واقع ان مصرف لبنان كرس سعرا رسميا جديدا، ولو بطريقة غير رسمية ونهائية للدولار، قيمته 3200 ليرة لبنانية، وهو بحاجة في وقت قريب اذا استمر اعتماد هذا التدبير الى طباعة المزيد من الليرات، فحجم الكتلة الورقية لاي عملة تحددها قيمة هذه العملة مقابل العملات الصعبة، وحاجة السوق اليها، وفي حالتنا هذه تضاعفت الحاجة الى ليرات ثلاث مرات على الاقل، وليست الا مسألة وقت حتى يضع مصرف لبنان فئات جديدة في التداول مثل مئتي الف وخمسماية الف ليرة، وخصوصا اذا جرى تحرير سعر الصرف كما يطالب صندوق النقد الدولي، وحلق الدولار الى حدود الخمسة الاف ليرة.
ولا شك ان طباعة كميات جديدة من الليرة واستمرار الارتفاع الحاد في سعر الدولار وبالتالي كل المواد والحاجات الغذائية والاستهلاكية، سيزيد من التضخم ، ولكن لا مجال هنا لمناقشة هذه المسألة.
ظاهرة تثبيت الدولار عن سعر يتجاوز بكثير سعر الـ1500 ليرة، تظهر مجددا، من خلال اعلان مصرف لبنان ووزارة الاقتصاد عن آلية جديدة سينفذها المركزي لتزويد مستوردي بعض السلع الغذائية والاساسية بالدولارات بسعر 3200 ليرة، وهذه خطوة ايجابية اذا انعكست على اسعار المواد المقصودة، وستخفف من الطلب على الدولار من السوق السوداء، ولكنها خطوة سلبية لسببين، لانها خطوة الى الوراء عن تعميم سابق للمركزي يؤمن الدولارات لدعم استيراد المحروقات والقمح والدواء بنسبة 85 في المئة على اساس سعر 1500 ليرة للدولار، وبالتالي فان تثبيت سعر 3200 ليرة يعني ان اسعار السلع الغذائية ستبقى مرتفعا ولن يعود الى سابق عهده، كما ان هذه العملية ستستنزف المزيد من احتياطي مصرف لبنان، اذا لم يجد مصدرا جديدا للحصول على الدولارات.
ولا شك ان تعميم المصارف الذي سمح لاصحاب الودائع الصغيرة التي تبلغ 3 الاف دولار كحد اقصى لاقفال حساباتهم شرط استلامها بما يعادلها بالليرة بسعر السوق الموازي، بالاضافة الى السماح لاي مودع آخر بالحصول على خمسة الاف دولار ايضا بهذا السعر، كانت في الاطار نفسه.
كل ما سبق يتعلق بمحاولات قامت بها السلطات النقدية في البلد للتعامل مع سوق العملات او الاصح الاستفادة من تقلباته، والهدف كان على الدوام استرداد اكبر قدر ممكن من الدولارات من الناس، فالارقام المسربة من هنا وهناك ، تقول ان هناك ما بين مليارين الى اربعة مليارات دولار في بيوت اللبنانيين، والمطلوب اخراجها الى السوق لتضع المصارف والبنك المركزي اليد عليها.
في الاسابيع الماضية شاع خبر في الوسط المالي ان بعض المصارف قدمت عروضا مذهلة وقد تكون خيالية للبنانيين من خلال منح اي شخص يحضر 10 الاف دولار نقدا الى البنك شيكا مصرفيا بقيمة 21 الف دولار. كما شاع خبر ثان في الفترة نفسها عن قرب تدخل مصرف لبنان بعشرات ملايين الدولارات لخفض سعر الدولار.
الخبر الاول عبر عن حاجة بعض المصارف، المتعثرة او على شفير الافلاس، الى العملة الخضراء نقدا، وقد عرضت ارقاما خيالية مقابلها ولكن بالشيكات، اي بالعملة المؤجلة (الميتة)، بحيث يصح القول ان الدولار بات مطلوبا في لبنان، حيا او ميتا.
اما الخبر الثاني، والذي ثبت انه غير صحيح، فقد تبين انه مجرد شائعة كان الهدف منها حث الناس على اخراج دولاراتهم المخبأة وبيعها في اقرب وقت.
هذا الاتجاه لبيع الدولار سيتكرس في الايام القليلة المقبلة، مع اعلان رئيس الحكومة حسان دياب انه تلقى وعدا من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بانه سيتدخل في السوق لحماية الليرة .
لا نعرف بالضبط كيف سيتدخل المركزي، وهل سيتم بالفعل طرح دولارات في السوق لموازنة العرض والطلب، علما ان سلامة سبق واكد مرارا ان هكذا اجراء مضر لانه سيسمح بتهريب الدولار الى الخارج. ام ان المنوي فعله هو فقط دعم استيراد سلع غذائية محددة بتزويد المستوردين بالدولارات على سعر 3200.
المؤكد ان رحلة البحث عن الدولارات ستستمر في الاشهر المقبلة، ولن تفيد التعاميم الرسمية، او العروضات المصرفية، او الاخبار المفبركة والشائعات، في وقف هذه المسلسل بل ستقويه، لسبب بسيط، وهو شح الدولارات والحاجة الكبيرة اليها. وبانتظار ان تأتي قروض كبيرة او مساعدات وهبات بالعملة الخضراء، سيبقى الوضع على ما هو عليه، بل سيتجه نحو الاسوأ.