يتساءل كثيرون عن التدخّلات الأنسب لمصرف لبنان في سوق القطع في المرحلة المقبلة، وهو الواقع بين المطرقة والسندّان، أي بين ارتفاع سعر صرف الدولار من جهة وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية من ناحية اخرى. كل ذلك وسط ضغوط شعبية وحكومية للجم الدولار وأخرى للحفاظ على ما تبقّى من دولارات المودعين. و”حلّها يا مصرف لبنان ان كان فيك تحلّها”…
لو بحثنا في إمكانيات تدخّل المصارف المركزية في العالم لوجدنا معايير دولية عدّة معتمدة، ومنها على سبيل التعداد لا الحصر:
معيار الربحية: يتدخّل المركزي على قاعدة ان تكون كلفة شرائه الدولار اقل من سعر بيعه له، تبعاً للقاعدة التي أطلقها الاقتصادي الكبير ميلتون فريدمان في العام 1953 وذلك بحسب تقنيات معقّدة لا مجال للدخول فيها ضمن هذا المقال، خصوصاً أنّها لا تنطبق (حتى الآن) على مصرف لبنان كونه يتدخّل بأموال المودعين.
معيار سعر التوازن: حيث يحدّد المركزي سعر توازن معين ويتدخّل للمحافظة عليه، وهذا ما قام به المركزي من العام 1994 إلى العام 2010.
معيار معاكسة الرياح: وهو معيار قام بتطبيقه مصرف لبنان منذ العام 2011 ولكنه استنزف عملاته الاجنبية، ولو أنّه أخَّرَ انهيار الليرة لبضع سنوات. من المعروف أنّ هذا المعيار يمكن تطبيقه فقط في حالات انتظار زوال ظرف استثنائي أو إيجاد حلول لمعضلة مرحلية.
المعيار الهجين: وهو مزيج من معيار معاكسة الرياح ومعيار سعر التوازن، وله تقنياته التطبيقية الصارمة ويتطلب، كما في معاكسة الرياح، احتياطياً مرتفعاً من العملات الأجنبية.
معيار الإنزلاق المضبوط Crawling Peg: يعتمد على فرملة الإنزلاق دون إيقافه، وهو أشبه بنظام منع انغلاق المكابح ABS الذي يحول دون توقف عجلات السيارات عن الدوران أثناء الفرملة، وذلك لتجنّب فقدان السيطرة على السيارة. وهنا يقوم المركزي بالتدخّل بنسب متفاوتة، مُتيحاً للدولار الارتفاع ولكن من دون فقدان السيطرة الكاملة عليه. وهذا المعيار الأنسب الذي كان يمكن اللجوء إليه منذ العام 2011. ولكن التخبّط السياسي ورمي كرة النار، كلٌّ في ملعب الآخر، أبقيا على معيار معاكسة الرياح مطبّقاً بانتظار الحلول التي لم تر النور حتى يومنا هذا.
معيار النيران التي تأكل نفسها: ونعتبره للاختصار مرادفاً للتحرير التام لسعر الصرف دون محاولة ضبطه بأي طريقة كانت، على امل ان يجد السوق توازنه من نفسه على قاعدة .Let the fire burn itself out وهو معيار مؤلم الى حدٍّ بعيد ولكن، لا مفرّ منه في حال نضوب احتياطي المصرف المركزي. وهذا ما كان قد قرّره مصرف لبنان يوم الأربعاء في 19 شباط 1992، حين أعلن عن ايقاف تدخّله في سوق القطع وترك سعر الدولار للعرض والطلب.
باختصار، ما هو متوقع في المدى المنظور، هو أن يلجأ المصرف المركزي إلى آلية الانزلاق المضبوط حتى العام 2021 (اذا سمح احتياطه بذلك) ومن ثم سيجد نفسه مجبراً على تحرير سعر الصرف مع بعض التدخّلات الشكلية بدءاً من العام 2022، مستعملاً بعض التكتيكات المتعارف عليها عالمياً، كالتأثير على السوق من خلال البيانات الإعلامية والتعاميم، وحتى اللجوء الى تقنية اقفال السوق لبضعة ايام لأسباب مختلفة.
يبقى الأمل الوحيد هو أن يستجيب المجتمع الدولي ويمدّه بالعملات الاجنبية، لكن حتى في هذه الحال سيكون عليه الاختيار بين الأولويات التالية:
هل تكون هذه العملات لتمويل استيراد الضروريات، أو لتلبية طلب سحوبات المودعين من العملات الاجنبية او للتدخّل في سوق القطع؟
باعتقادي، سيضطر مصرف لبنان الى إعطاء الأولوية لاستيراد ضروريات العيش الأساسية، تاركاً لقوى العرض والطلب التحكّم بسعر صرف الدولار في سوق القطع. ومن المتوقع أن يترافق ذلك مع تجاذبات الانتخابات الرئاسية في 2022 وحكومة تصريف الأعمال في 2023.