كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها اللبنانيون اليوم عن مصير سعر صرف الدولار بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هل يستمرّ بالاستقرار؟ أم رحيل سلامة خلال شهر تموز سيطلق صافرة “التحليق” مجدّداً إلى ما فوق 100 ألف ليرة؟
بحسب المعلومات الموثوقة، فإنّ الاستقرار مستمرّ، أقلّه حتّى نهاية الصيف. لن يؤثّر رحيل سلامة على سعر صرف الدولار في السوق، خصوصاً بعد الإجراءات التي اتّخذها المجلس المركزي في مصرف لبنان، والتي استطاعت أن تُرسي الاستقرار الحالي، وسنأتي على ذكرها أدناه.
قبل ذلك، أكثر من جهة سياسية وصحافية نقلت في مجالس خاصة عن الحاكم أنّ سعر الصرف سيصل إلى عتبة 100 ألف ليرة ويتوقّف. وتُنقل معلومات بالتواتر أنّ السير بالإصلاحات ربّما سيعيد سعر الصرف إلى ما دون 50 ألف ليرة، خصوصاً إن ترافقت تلك الإصلاحات الحكومية وتلك التي يتّخذها المجلس المركزي في مصرف لبنان، مع انتخاب رئيس مرضيّ عنه عربياً ودولياً ويستطيع أن يشكّل حكومة متجانسة يتّفق معها.
إلى حينه يمكن القول إنّه “لا ارتفاع في سعر الصرف حتى بعد رحيل سلامة” في المدى المنظور، أو أقلّه حتى نهاية فصل الصيف.
تفيد المعلومات أنّ المجلس المركزي في مصرف لبنان لم يكن راضياً على آليّة إدارة سلامة لعملية بيع الدولارات وشرائها عبر “صيرفة”، لأنّها كانت تتّسم بـ”الفوضى” و”الإفراط”، لكنّ الضغوط التي مارسها عدد من أعضاء المجلس، ثمّ التوليفات العديدة التي فرضوها على تلك الآليّة، استطاعت أن تُرسي آلية أخرى “أكثر تنظيماً” باتت قادرة على كبح “الشراهة” في شراء الدولارات “بلا سقف” التي أرساها سلامة طوال تلك المدّة، والتي تسبّبت إلى جانب عوامل أخرى بارتفاع سعر الصرف بالشكل العشوائي الذي شهدناه قبل بداية شهر آذار، وصولاً إلى نحو 140 ألفاً.
كيف تمّ تنظيم “صيرفة”؟
ما يحصل اليوم يُختصر بأنّ المصرف المركزي استطاع أن ينظّم آلية عمل “صيرفة”، وذلك بالموازنة بين:
1- منصّة “صيرفة”: التي باتت مهمّتها تنحصر بسحب الليرات من السوق لكبح تضخّم الكتلة النقدية.
2- الصرّافين: من خلال استخدام قدراتهم على جمع الدولارات من المواطنين مقابل الليرات اللبنانية التي ينفرد مصرف لبنان بضخّها في السوق، وهم بدورهم يسلّمونها إلى مصرف لبنان.
استطاع المجلس بذلك أن يوازن بين ما يضخّه من ليرات عبر الصرّافين، وما يمتصّه من دولارات بواسطة “صيرفة”، لكن طبعاً هناك كلفة يعترف بها مصرف لبنان ويقوم بتحمّلها و/أو تحميل جزء منها، أو ربّما كلّها، للدولة اللبنانية.
تؤكّد أوساط مصرف لبنان أنّ تلك الخسارة “هامشية” وبلا قيمة اليوم، إذا ما قورنت مع الاستقرار الذي استطاع “المركزي” أن يرسيه، ومقارنة بالفوائد الاقتصادية والإيجابيات التي يجنيها المواطن اللبناني، والتي فرضها ذاك الاستقرار، خصوصاً بعد فرض التقارب بين سعرَيْ “صيرفة” والسوق السوداء.
هذه الخسارة هي الفارق بين سعر السوق الحالي (94,500 ل. ل) وسعر “صيرفة” (86,300 ل.ل)، أي ما بين 10 و11 ألف ليرة يتحمّلها المركزي ويعتبر أن لا مفرّ منها من أجل فرض الاستقرار.
أمّا ما يساعد مصرف لبنان على إنجاح تلك الآليّة بعد الإجراءات التي اتّخذها المجلس المركزي، فهما عاملان ذهبيان:
1- وفرة الدولارات بين أيدي المواطنين.
2- حاجتهم إلى الليرات اللبنانية من أجل تسيير الأمور اليومية.
هذه “الوفرة” بالدولارات تقابلها “حاجة” إلى الليرات، وهو ما يدفع المواطنين إلى التوجّه إلى الصرّافين لاستبدال الدولارات بالليرات، ثمّ تصبّ بدورها هذه الدولارات عند مصرف لبنان عبر الصرّافين، لكنّ هذه المرّة “بهدوء” وضمن توازن دقيق أقرب إلى “المعجزة”.
تكشف مصادر مصرف لبنان لـ”أساس” أنّ حاجة مصرف لبنان السنويّة من الدولارات من أجل تسيير أمور الدولة (باعتباره حكومة الظلّ اليوم) هي 3 مليارات دولار التي تمثّل فعليّاً عجزاً في موازنة الدولة. وكانت الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة لناحية رفع الضرائب والرسوم باحتسابها على سعر منصّة “صيرفة”، وتحسين قيمة الجباية وغير ذلك، قد ساهمت في تقليص هذا العجز الذي كان بحدود 7 مليارات دولار قبل رفع الضرائب والرسوم.
بمعنى آخر، بات مصرف لبنان قادراً من خلال هذه العملية على تأمين (لنفسه وللدولة) نحو 250 مليون دولار شهرياً من أيدي المواطنين، بعدما كانت نحو 580 مليون دولار، من دون أن يتأثّر سعر الصرف سلباً.
هل هذا التوازن قابل للاستمرار؟
تؤكّد مصادر مصرف لبنان أنّنا ما زلنا في طور هبوط سعر الليرة، لكنّ سرعة هذا الهبوط تراجعت. ليس هذا الاستقرار استقراراً مستداماً وإنمّا مرحليّ ساهمت عوامل عدّة في إرسائه بما يشبه “المعجزة”. ومن بين تلك العوامل تراجع إضرابات المصارف، وانحسار هجمات القاضية غادة عون وغيرها على المصرف المركزي، والجوّ الإيجابي إقليمياً، الذي بدأت ملامحه تظهر في سوريا وتتسرّب إلى لبنان.
في نظر المصادر “الرسمية”، فإنّ “التوازن” السوري – العربي مهمّ جداً لإطالة أمد هذا الاستقرار. فكلّما وجد الداخل السوري متنفّساً اقتصادياً إضافياً، انعكس ذلك إيجاباً على سعر الصرف في لبنان. في حين أنّ انعدام هذه الأسباب سيتسبّب حتماً بعودة “انعدام الثقة” الذي سيدفع بدوره إلى ارتفاع سعر الصرف مجدّداً.
لا تقف الأجواء الإيجابية “المشروطة” عند هذا الحدّ. بل تكشف المصادر أنّ حجم الودائع الباقية لدى المصارف لا تتعدّى 90 مليار دولار من أصل ما يقارب 160 ملياراً. وهي لمودعين اختاروا أن يعطوا ما يشبه “فترة سماح” مضمرة، خصوصاً بعد تراجع هامش “صغار المودعين” كثيراً بفعل التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان، مثل التعاميم 158، 161، واليوم 165.
ترافقت كلّ هذه العوامل مع عودة القطاع الخاص إلى التكيّف مع الأزمة بشكل ملحوظ، على الرغم من تمنّع السلطة عن القيام بواجباتها في إقرار القوانين اللازمة مثل “الكابيتال كونترول” و”هيكلة المصارف” و”توحيد سعر الصرف”.
أمّا مستقبلاً فتعتبر المصادر أنّ دخول التعميم 165 الجديد، الذي يسعى إلى إعادة تحريك المياه الاقتصادية الراكدة من خلال إعادة خلق ودائع “فريش” بالليرة وبالدولار، حيّز التنفيذ، سيكون بمنزلة الخطوة الأولى لـ”تحضير الأرضيّة” في طريق عودة الحياة إلى القطاع المصرفي، ويمكن أن يُبنى عليها مع الوقت من أجل تحويل منصّة “صيرفة” إلى “منصّة مزدوجة” تمكّن المواطنين من شراء وبيع الدولارات عبرها في المصارف. وبذلك يكون قد أفل دور المضاربين بشكل نهائي إلى غير رجعة، وعندئذٍ يتراجع دور الصرّافين الذي انتفخ منذ بداية الأزمة إلى حدود بعض الفتات فقط.
بحسب المصادر، سيكون نجاح التعميم 165، مع أجواء سياسية إيجابية إضافية، كفيلاً بضخّ جرعات إضافية من “الثقة” تستطيع كلّها مجتمعة أن تفرض استقراراً في سعر الصرف، لكن بشرط أساسي هو إظهار الجدّيّة المطلوبة من قبل السلطة، وإثبات قدرتها على الالتزام بمسؤوليّاتها. بينما المواطنون ووسائل الإعلام سيكونون مطالبين ببثّ الـpositive Vibes المفقودة، من أجل الحفاظ على منسوب الثقة القليل الباقي لإعادة إحياء الاقتصاد الوطني، وعماده القطاع المصرفي.