في المنطق الاقتصادي، يهبط سعر أيّ سلعة حين تتوافر بكثرة، ويرتفع نتيجة نُدرتها. تُسمّى هذه القاعدة الاقتصادية “العرض والطلب”، وتُطبّق على جميع السلع حتى على العملات. لكنّها لا تنطبق على سعر الدولار في لبنان.
في بلادنا يرتفع سعر صرف الدولار إذا فُقد من السوق، ويرتفع أيضاً إذا توافر. وهذا نتيجة الفوضى وعدم قدرة مصرف لبنان على الإمساك بلعبة العرض والطلب.
ثمّة مؤشّر يدلّ على ذلك صراحة، وهو الفرق بين سعر صرف “السوق السوداء” وسعر صرف الدولار لدى OMT التي تجمع الدولارات لمصرف لبنان. فكلّما كان سعر دولار OMT أدنى من سعر “السوق السوداء” كانت اللعبة خارجة عن إرادة مصرف لبنان، بينما العكس صحيح.
حينما تتوافر الدولارات في السوق وبين أيدي الناس نتيجة المال الانتخابي أو السياحي أو أيّ سبب آخر، لا يهبط سعر الصرف، وذلك لأنّ مصرف لبنان اللاهث خلف الدولار يضطرّ إلى امتصاصه من السوق بواسطة ضخّ المزيد من الليرات. بهذه الطريقة فقط يستطيع المركزي جذب الدولارات إليه.
يؤدّي هذا إلى رفع سعر الصرف، تماماً مثلما حصل بعد ساعات من انتهاء الانتخابات. يومذاك اضطرّ مصرف لبنان إلى فعل ذلك من أجل تحويل مسرب الدولارات صوب خزائنه. وهذا تحديداً ما سيحصل في الشهرين المقبلين مع بداية الموسم السياحي، إذ يُرجَّح أن يرتفع سعر الصرف إلى أرقام قياسية جديدة قد تقترب أو تصل ربّما إلى نحو 40 ألف ليرة للدولار الواحد.
لماذا سيرتفع الدولار؟
سيكون هذا الارتفاع الحتميّ، الذي سينتظرنا في الأسابيع القليلة المقبلة، محكوماً بـ3 عوامل بحسب “أساس”:
أولاً، وقف العمل بالتعميم 161 الذي يتدخّل مصرف لبنان بموجبه من أجل بيع المواطنين الدولارات على سعر منصة صيرفة. تفيد المعلومات المستقاة من المصارف ومن مصرف لبنان بأنّ “السقف المفتوح” أُغلق مواربة، وبات لكلّ مواطن أن يشتري 500 دولار شهريّاً فقط، وتتحدّث الأوساط المصرفية عن آليّات جديدة سيكشف عنها مصرف لبنان لاحقاً تخصّ المستوردين.
تظهر حركة التداول على المنصّة المذكورة أنّ المصرف المركزي بدأ فعلاً يقتصد في بيع الدولارات، إذ سجّل حجم التداول في اليومين الماضيين ما لا يزيد على 50 مليون دولار في اليوم الواحد (انخفض إلى النصف)، وهذا يعني أنّ الدولارات ستبدأ بالشحّ لدى المصارف تباعاً، لأنّ المصرف المركزي عاجز عن الاستمرار بهذه السياسة: حرق الدولارات بلا أفق من أجل تمرير الوقت وتقطيع الاستحقاقات.
ثانياً، وفرة الدولارات التي ستبدأ بالظهور بين أيدي الناس خلال الأسابيع المقبلة، مع بدء توافد السيّاح والمغتربين. هؤلاء ينتظرهم القطاع السياحي من أجل “مصّ دمائهم” في المطاعم والمقاهي والمسابح والمنتجعات. سيرفع استهلاكهم للسلع والموادّ الغذائية والكماليّات فاتورة الاستهلاك بشكل مؤكّد، وهذا سيرتدّ ارتفاعاً في سعر الصرف وتضخّماً في أسعار جميع السلع. وسيرفع استهلاكهم للمحروقات لزوم التنقّل واستئجار السيارات فاتورة المحروقات أيضاً.
سيتمّ شفط دولارات هؤلاء المغتربين والسيّاح بواسطة الليرات اللبنانية، وهذا سؤدّي حكماً إلى ارتفاع سعر الصرف. السلطة النقدية في البلاد تنتظرهم بفارغ الصبر، وتعوّل على ما يحملونه من دولارات لشفطها وإعادة تغذية خزائن المصرف المركزي تعويضاً عن كلّ ما أنفقه من أجل تمرير الانتخابات، وقد رأينا رئيس الحكومة شخصيّاً يعاين مطار رفيق الحريري الدولي ليتأكّد بنفسه من أنّهم سيصلون سالمين غانمين!
من المفيد التذكير بأنّ أسعار صرف الدولار خلال السنتين الماضيتين تظهر أنّ أعلى أرقام سجّلتها “السوق السوداء” كانت خلال الصيف والموسم السياحي:
– في صيف 2020 بلغ سعر الدولار عتبة 9 آلاف ليرة في سابقة كانت الأولى.
– في صيف 2021 وصل إلى 23 ألف ليرة، وكانت أيضاً المرّة الأولى التي يرتفع بها سعر الصرف إلى هذا الرقم.
– في صيف 2022 قد نكون على أعتاب تسجيل رقم جديد قد يفوق 38 ألفاً.
ثالثاً، تحرير سعر المحروقات كليّاً وتوقّف مصرف لبنان عن بيع المستوردين الدولارات على سعر منصة صيرفة. إذ تكشف مصادر مواكبة للملف النفطي أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عاد إلى الحديث عن هذا الخيار بعدما أجّله قبيل الانتخابات بطلب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
يعود سلامة إلى هذا الطرح اليوم تحسّباً لتكبّده المزيد من الخسائر، بين سعر الدولار الفعلي وسعر منصة “صيرفة” التي ينقص السعر فيها عن السوق بنحو 4 آلاف ليرة، وربّما في الأيام المقبلة أكثر من ذلك بكثير. هذا الفرق سيتكبّده مصرف لبنان من جيبه، خصوصاً مع وصول المغتربين وارتفاع فاتورة المحروقات.
إضافة إلى ما سبق، فإنّ نتيجة ذلك إلى جانب عدم تأكيد اعتراف مصرف لبنان بسعر منصّته، ستكون لجوء مستوردي المحروقات إلى “السوق السوداء” من أجل الحصول على الدولارات، وقد يطلبون من المحطات بيع الوقود بالليرة اللبنانية، وتسديد فواتيرهم بالدولار. قد يعيدنا هذا كلّه إلى المربّع الأوّل لأزمة البنزين، أي إلى حقبة الطوابير على أبواب المحطات والغالونات، ناهيك عن احتمال ظهور سوقَيْن للمحروقات بدل سوق واحد: سوق من محطات تبيع البنزين بالليرة اللبنانية، وسوق آخر “خطّه عسكري” لِمَن قادر على دفع ثمن البنزين بالدولار “الفريش”.
سيتعزّز هذا كلّه وترتفع احتمالات حدوثه أكثر فأكثر إذا استمرّت المراوحة في تحديد مصير حاكم مصرف لبنان الذي تتراكم فوق رأسه الاستدعاءات والدعاوى القضائية في الداخل والخارج، وإذا استمرّ الرئيس ميشال عون بالمماطلة في إطلاق الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار الرئيس المكلّف. عندئذٍ سنكون قد دخلنا رسمياً في طريق “الفراغ الحكومي”، وعبّدناها أمام “الفراغ الرئاسي”، وسيكون سعر صرف الدولار متفلّتاً وجاهزاً أكثر لمزيد من التحليق… والتحليق… والتحليق.