لا شبيه للحلول المقترحة لرفع رواتب القطاع العام، وثني الموظفين عن الإضراب في «اللادولة»، إلا مثال «القط الذي لحس المبرد». فكما استساغ القط دمه المسال على المبرد وظل يلحسه حتى فرغ منه وذاب لسانه، فإن الزيادات الموعودة ستموّل من «دماء» زيادة الضرائب وطبع النقود. فلا تلبث أن تفقد الرواتب قدرتها الشرائية أكثر مما كسبته، ونعود إلى نقطة ما دون الصفر… وهكذا دواليك.
الحل الموقت الذي حددت بدايته في الأول من تموز الحالي، وعُلّقت نهايته بتطبيق الموازنات، يقضي بـ:»إعطاء راتب فوق الراتب الأساسي، شرط الحضور يومين في الأسبوع إلى العمل، ورفع بدل النقل إلى 95 ألف ليرة يومياً». في الشكل يخالف هذا الحل الذي سيخصص بشكل أساسي لموظفي الإدارات العامة البالغ عددهم 15 ألفاً، مبدأ التساوي ووحدة المقاييس بين موظفي القطاع العام. حيث تتحول الإدارات العامة شيئاً فشيئاً إلى «حارة كل مين إيدو إلو»، والمحظوظ يحصّل حقه بيده، سواء من خزينة الدولة أو الجهات الدولية الداعمة. وهذا ما حصل مع القوى المسلحة، والمعلمين في المدارس الرسمية، وسيحصل مستقبلاً مع موظفي الإدارات العامة. في المقابل يبقى إعطاء الزودات للكثير من القطاعات مثل البلديات والجامعة اللبنانية رهن مزاجية رؤسائها، الذين لا يعترفون لا بزودات ولا بخلافه، وحجتهم الدائمة ضعف التحصيل وقلة الموارد.
نقل العبء على الخاص
من الجهة الأخرى فإن ما يطرح من تحفيزات لمساعدة موظفي القطاع العام على شاكلة الطلب من المدارس الخاصة، عدم تقاضي الأقساط المدرسية من الموظفين في القطاع العام بالدولار، وتخصيصهم بحسومات معينة في الاتصالات سيلقي كل العبء على موظفي القطاع الخاص، فينتفي أيضاً مبدأ العدالة بين المواطنين.
تحلّل الدولة
لكل ما يحصل وصف واحد، هو «تحلّل الدولة بكافة مؤسساتها»، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وممثل الجامعة اللبنانية في لجنة المؤشر د. أنيس بو دياب، «فما نعيشه اليوم كان سبق لـ»بنك أوف أميركا» أن حذر منه بأحد أخطر السيناريوات التي رسمها قبل مدة ليست بطويلة. حيث أشار بوضوح إلى أن النصف الثاني من العام الحالي سيشهد فراغاً حكومياً مترافقاً مع بطء بالعملية التشريعية، وتعطيلاً في إقرار قوانين أساسية، كالموازنة على سبيل المثال». وبحسب بو دياب فانه «في ظل عدم وجود موازنة تحدد بوضوح ومن دون التباس النفقات وسبل تمويلها من الايرادات، فإن كل المعالجات تبقى غب الطلب تضر أكثر ممّا تنفع بأشواط». وما يزيد الأمور تعقيداً برأيه هو «الضياع الناتج عن غياب قواعد واضحة لتحديد سعر الصرف، والخلاف على الدولار الجمركي الذي يعتبر مصدراً أساسياً لتمويل الواردات، وعدم احترام المهلة المعطاة لغاية أيلول للبت بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي».
الأمور تزداد سوءاً
سيناريو «بنك أوف أميركا»، الذي يتوقع أيضاً الوصول في نهاية تشرين الأول إلى فراغ رئاسي، «سيزيد الأمور سوءاً في حال تحققه»، بحسب بو دياب. و»سيؤدي هذا الواقع إلى المزيد من الانهيار بالقدرة الشرائية وارتفاع معدلات الفقر، وسيصعب الخروج من الانهيار مطلع العام 2023 في حال استقامة الأمور». حيث ستكون العودة إلى النمو بطيئة، وسيعجز لبنان عن الوصول إلى المعدلات المصبو إليها لإصلاح الرواتب وتنفيذ البرامج الإنمائية وزيادة المساعدات الاجتماعية واستدامة الدين وغيرها الكثير من المتطلبات الملحة. إذ إن كل يوم تأخير للحل يكلف البلد خسارة بقيمة 30 مليون دولار تدفع ممّا بقي من التوظيفات. يقابلها تراجع هائل بالايرادات، نتيجة احتساب مختلف الضرائب والرسوم على أساس سعر صرف 1500 ليرة، وزيادة نسب التهرب بشكل كبير، إذ يقدّر أن يكون نحو 60 في المئة من الاقتصاد يعمل بالأسود. وأيضاً نتيجة إقفال الإدارات حيث لم يتجاوز حضور موظفي الإدارة إلى مكاتبهم منذ تشرين الثاني من العام الماضي أكثر من 32 يوماً.
صعبة التحقق
«أمام هذا الواقع، فإن أي زيادة في الوقت الراهن على الرواتب والأجور في القطاع العام ستمول من طباعة النقود، ما يعني المزيد من انهيار الليرة وفقدانها قيمتها الشرائية. وحتى لو سلمنا جدلاً بإمكانية إقرارها من ضمن المناورات الحكومية، فستبقى حبراً على ورق»، برأي بو دياب. و»الدليل على ذلك عدم تقاضي الموظفين ما عرف بـ»المنحة الاجتماعية» المحددة بين 1.5 و3 ملايين ليرة بشكل منتظم. حيث لم يستفيدوا لأكثر من 3 أشهر منها. مع العلم أنها أقرّت في شهر كانون الثاني الماضي أي منذ سبعة أشهر. أكثر من ذلك فإن رفع بدل النقل الذي أقرته لجنة المؤشر في 1/1/2022 لم يدفع للقطاع العام. وعليه فإن الزيادات ستبقى ورقية عبارة عن قيود كتابية حسابية لا تنفذ». ويشدد بو دياب على أنها «إذا أتت الزيادات غب الطلب من دون خطة شاملة فسيكون وقعها أسوأ ويفاقم انهيار سعر الصرف، لأنها ستمول بشكل كامل من طباعة النقود».
غياب الدولة هو المشكلة
جوهر المشكلة التي يعاني منها الجميع يبقى غياب الدولة. ففي ظل حكم الدويلة ستبقى الحدود مشرعة على مصراعيها، ومعارضة الاتفاق مع صندوق النقد قائمة، وكل اشكال التهريب والتهرب مباحة. وعليه فان أثر الضرائب لن يكون خفيفاً نتيجة زيادة معدلات التهريب والتهرب فحسب، بل سيحمل المواطن الصالح، والمؤسسات الملتزمة كل الاعباء، مقابل تهرب شريحة كبيرة، وتنعمها بمنافسة غير عادلة. الأمر الذي سيقلص الصحن الضريبي من جهة، ويؤدي من الجهة الثانية إلى المزيد من الإقفالات في القطاعات الاقتصادية الشرعية. وبالتالي تراجع الايرادات وانعدام القدرة على إصلاح الرواتب في القطاع العام بشكل عادل ومنطقي. ولعلّ الدليل الأبرز على خطورة التهريب هو ما يواجهه المواطن راهناً من مشقات لتأمين لقمة الخبز بسبب استفحال تهريب الطحين المدعوم بنسبة 100 في المئة، وذلك بحسب ما يرد على لسان أعلى المراجع في الدولة.
ما يحصل اليوم من إضرابات وتوقف عن العمل واستئساد في المطالبة بالحقوق، «هو سليم ومحق بنسبة 100 في المئة، لكنه لا يصيب الهدف المرجو بسبب الانحراف في التصويب. فاضمحلال مؤسسات الدولة وتحلّلها يستحيل أن ينتج عنهما ما فيه خير المواطن. والهدف من أي مطالبة ناجحة يجب أن يبدأ باستعادة الدولة من الدويلة وعودة الثقة بمؤسساتها وتمكينها من فرض النظام على الجميع بالعدل والتساوي.