الدولة لا تسمع: بديل الإهراءات بالبقاع لتأمين مخزون القمح

لا يصدق المعنيون في “الدولة” اللبنانية حتى الآن وجود مستودعات في سهل البقاع، يمكن أن تشكل بديلاً ولو مؤقتاً عن إهراءات القمح التي انهارت إثر انفجار مرفأ بيروت.

فعلى الرغم من الكتب المتكررة التي أرسلها إلى الوزارات المعنية مديرُ عام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، ميشال افرام، يعلمهم فيها وضع ثمانية مستودعات تابعة للمصلحة بتصرفها، وهي غير مستخدمة منذ توقف مشروع دعم زراعة القمح في بداية أزمة سنة 2019 الاقتصادية، ويمكن إدراجها في خطة الطوارئ لتأمين مخزون استراتيجي من كميات القمح التي يحتاجها لبنان لإنتاج الخبز تحديداً، لم تبدِ لجنة الطوارئ التي تشكلت من عدة وزارات لمواكبة أزمة القمح والحبوب العالمية، استجابة لاستخدام هذه المستودعات حتى الآن! علماً أن كمية القمح والحبوب التي يمكن أن تستوعبها، وفقاً لافرام، لا تقل عن 200 ألف طن، مع تكفل المصلحة بضمان سلامتها وصلاحيتها بشكل تام، على أن تشرف الوزارات المعنية مباشرة على عملية تفريغ مخزونها وتوزيعه.

يعلم المعنيون في الدولة، أن الوقت ليس في مصلحة لبنان. وأن التأخير في اتخاذ القرارات ووضع خطوات عملية تؤمن “مخزوناً استراتيجياً” من القمح خصوصاً، سيدفع بهذا البلد إلى خارج المنافسة العالمية على التزود بالقمح، تبدو بورصة أسعاره في وتيرة تصاعدية مستمرة، كلما طالت الأزمة الروسية الأوكرانية.

هذا في وقت كشف مدير مكتب الحبوب والشمندر السكري، جورج برباري، في زيارة إلى “تل عمارة” اليوم، أن الكمية الاحتياطية الوحيدة المتوفرة في لبنان حالياً، هي تلك التي تتوفر عن طريق المطاحن، وهي تكفي لشهرين فقط. عازياً السبب إلى افتقاد لبنان لمخزون استراتيجي منذ انفجار مرفأ بيروت وتهدم إهراءات القمح كلياً.

في المقابل، فإن المستودعات التي تعرضها مصلحة الأبحاث لتخزين كميات إضافية ليست سراً. إنما هي متوفرة إنشائياً منذ سنة 2015، سبعة منها موجودة في مركز مصلحة الأبحاث العلمية بمنطقة تل عمارة- قضاء زحلة، وواحد في محطة كفردان. بلغت كلفة تجهيز هذه المستودعات نحو مليار ليرة لبنانية (حين كان سعر الدولار 1500 ليرة)، واستغرق إنجازها من سنة 2012 إلى 2015.

تبلغ مساحة كل مستودع 1250 متراً مربعاً بارتفاع 12 مترا، وهي -كما يؤكد أفرام- مهوأة بشكل ممتاز، وقد تم اختبارها سابقاً، ولم تفسد فيها حبة قمح واحدة.

لم تخف مصلحة الأبحاث حقيقة امتلاكها لهذه المستودعات. بل هي وضعتها بتصرف الوزارات المعنية منذ انفجار 4 آب، عندما بدأت المساعدات الغذائية تغدق على لبنان. ولما وصلت هبة من الطحين، أرسلت المصلحة للوزارات المعنية كتباً تطلب تخزين الطحين لدى مستودعاتها. إلا أن الأخيرة إرتأت تخزينه في المدينة الرياضية في بيروت، فهدرت كمياته تحت وطأة الإهمال بمعالجة مشكلة فيضان مياه الأمطار التي اجتاحتها.

وبالعودة إلى مستودعات مصلحة الأبحاث، فقد كانت الفكرة الأساسية من إنشائها حينها، تأمين الأمكنة الآمنة والسليمة لتخزين كميات الحبوب المنتجة في لبنان، ولا سيما القمح، بنوعيه الطري والقاسي، والذي كانت المصلحة تشرف مباشرة على استلام كمياته “المدعومة” من المزارعين، بعد أن توفر لهم سنوياً أنواعاً من البذار المؤصلة من أجل إنتاج أفضل نوعية، وبكلفة مقبولة.

حتى سنة 2019 كانت الكمية التي تسلمتها المصلحة من المزارعين قد وصلت إلى 165 ألف طن. إلا أنه في هذه السنة تحديداً “فلت الملق” بالنسبة لسعر الدولار المجمد من قبل مصرف لبنان. فأصبحت التسعيرة المحددة من قبل وزارة الاقتصاد لاستلام كيلو القمح المدعوم بـ625 ليرة، غير عادلة بالنسبة للمزارعين. توصلت المصلحة إلى اتفاق مع المزارعين حينها على تسعيرة وسطية بين ما يطالب به المزراعون أي 3250 ليرة للكيلو، والسقف المحدد للدعم، ورفعت كتاباً إلى وزارتي الاقتصاد والمال لجعل الدعم بمبلغ 1200 ليرة عن كل كيلو، بعد أن تسلمت من المزارعين مجمل المحصول. إلا أن كلا الوزارتين رفضتا رفع قيمة الدعم. ولما لجأت المصلحة إلى ديوان المحاسبة، اعتبرت الأخيرة أن المزراعين بحل من الاتفاقات التي وقعوها مع مصلحة الأبحاث، وكان على الأخيرة أن تعيد الإنتاج لأصحابه، الذين باعوه للخارج بكلفة فاقت الثلاثة آلاف ليرة، مفوتين جميعاً على لبنان فرصة امتلاك مخزون محلي إضافي.

لم يكن أحد يعلم حينها أن انفجاراً كبيراً سيهز لبنان ويعصف بإهراءات القمح في المرفأ. ورغم كل المؤشرات التي بدأت تتوضح عن توجه لبنان إلى أزمة غذائية قد يقف خلالها عاجزاً أمام قدرته على استيراد المواد الأساسية، لم يخطر لأحد أهمية استعادة الدعم للقمح كزراعة استراتيجية. فمهما بلغت كلفة تشجيعها تبقى دون أعباء استيرادها. حتى بات التندر في السوق المحلي حالياً على بضعة أطنان من القمح، تبعد عن اللبنانيين شبح الجوع الذي بدأ يلوح مع توسع الأزمات الاقتصادية عالمياً. فلم تنجح الوزارات المعنية مؤخراً سوى بمحاصرة تصدير كمية 2700 طن من القمح القاسي، يؤكد المعنيون أنها “جمعت بالقطارة”، كان يفترض أن تصدر لشركة باريللا، ولكنها منعت من الخروج من لبنان بسبب الأزمة العالمية.

ومع تفاقم الحديث عن افتقاد السوق اللبناني لكميات من المخزون الإستراتيجي، على رغم المحاولات التي تجري لتسهيل عمليات الإستيراد المباشر من قبل المطاحن، عاد أفرام ليذكر بهذه المستودعات.

إلا أن الدولة لا تزال تبحث عن الذرائع لإهمال البحث بها كخيارات، وآخر هذه الذرائع ما يتعلق بالمسافة الفاصلة بين مرفأ بيروت والبقاع، والذي سيفرض كلفة إضافية مزدوجة، أولاً لنقل الإنتاج المستورد إلى البقاع، ومن ثم نقله مجدداً إلى مطاحن بيروت وباقي المدن. علما أن المصلحة تعرض مخازنها مجاناً للدولة، وتبدي استعداداً حتى لتقديم خدمة التحميل والتنزيل في المستودعات، مع السهر على سلامة أنواع هذه الحبوب، عبر فحصها الدوري في مختبراتها.

قد يكون هذا الإصرار وراء تجاوب المعنيين مؤخراً، لإرسال مدير عام مكتب الحبوب والشمندر السكري، جورج برباري، لتفقد هذه المستودعات. وأقر برباري أن هذا العرض هو الوحيد المتاح أمام لجنة الطوارئ التي تبحث في تأمين الكميات الاستراتيجية بأقصى سرعة. من دون أن يعني ذلك أن الدولة ماضية عبر لجانها لتوفير الكميات من دون عوائق. ذلك أن السلفة التي أقرها المعنيون لتأمين 50 ألف طن، لا تعني أن الكميات باتت في الجيب، فدونها إجراءات رسمية روتينية، أمل برباري أن لا يسبق إنجازها تبدلُ السعر العالمي للقمح، فيصبح المبلغ غير كاف لتأمين الكمية المحددة.

علما أن كمية 50 ألف طن، لا تشكل سوى 5 بالمئة من حاجة لبنان السنوية من القمح الطري، والتي حددها افرام في دردشة مع الصحافيين بنحو 900 ألف طن سنوياً، من بينها 400 ألف طن تذهب لاستهلاك النازحين السوريين.

علماً أنه بسبب توقف الدعم، فإن كمية إنتاج القمح المحلي، والذي يبدأ محصوله بالظهور بعد نحو شهر قد لا تصل إلى 50 ألف طن. فيما يؤكد أفرام انه لو استمر الدعم لكان لبنان قادراً هذا العام على توفير نصف حاجته من القمح القاسي والطري.

ومع ذلك، يؤكد أفرام أنه لم يفت الأوان. خصوصاً أن الأزمة الغذائية في العالم لا تبدو قصيرة الأمد. ومن هنا، يتحدث عن مشروع لثلاث سنوات أمل أن يناقشه مجلس الوزراء قريباً، يقضي بدعم زراعات القمح بنوعيه الطري والقاسي والحمص والعدس والفول والشعير، وهي زراعات يعتبرها أساسية في تأمين الاكتفاء الغذائي.

ووفقاً للدراسة التي أعدتها الدكتورة رلى العميل في المصلحة، أكد افرام أن لبنان قادر على رفع إنتاجه من هذه المحاصيل خلال ثلاث سنوات، لتصل كمياتها المنتجة إلى 116 ألف طن في سنة 2025، ما يمكن أن يسد ولو جزء من حاجة لبنان، ويؤمن للمزارع الاستقرار الاقتصادي.

لتبقى الأولوية حالياً، في تأمين الكميات التي سيحتاجها لبنان في الأشهر المقبلة، والتي قد تشكل أخطر اختبار لهذه الحكومة في حماية اللبنانيين من شبح الجوع الذي أضاف إلى قلقهم قلقاً جديداً.

مصدرالمدن - لوسي بارسخيان
المادة السابقةوزارة السياحة حذرت كل من يتعاطى أعمال السفر والسياحة من دون ترخيص
المقالة القادمة“لقاء سري”: الحكومة تتفاوض مع المودعين.. بلسان المصارف!