الدين العام بالليرة: كم كسبنا من تراجع سعر الصرف؟

قبيل حصول الانهيار المالي في الربع الأخير من عام 2019، كانت قيمة الدين العام اللبناني تناهز 86.8 مليار دولار أميركي. 37.4% من هذا المبلغ عبارة عن ديون بالدولار الأميركي، من خلال سندات اليوروبوند. كانت قيمتها الإجماليّة لا تتجاوز في ذلك الوقت 32.5 مليار دولار أميركي، قبل أن تتراكم فوائدها بعد الأزمة. أما القيمة المتبقية من الدين العام، وبنسبة 62.6%، فكانت عبارة عن سندات بالليرة اللبنانيّة، بقيمة تبلغ 81.82 ألف مليار ليرة لبنانيّة، أو 54.3 مليار دولار أميركي وفقًا لسعر الصرف الرائج -والثابت بدعم من مصرف لبنان- في حينه.

وقد تبدو هذه الحقيقة اليوم، بعد ست سنوات من حصول الانهيار، مفارقة غريبة: كان مصرف لبنان ينفق الاحتياطات، من أموال المودعين، لدعم سعر الصرف بطريقة تحمي “قيمة الدين العام”، أي قيمة الالتزامات والأعباء التي تنوء تحتها الدولة اللبنانيّة. وبينما تذرّع المصرف المركزي وقتها بأهميّة تثبيت سعر الصرف، لحماية القدرة الشرائيّة للبنانيين، أظهر الانهيار بعد العام 2019 خطورة هذه السياسة على الانتظام النقدي العام. وفي جميع الحالات، باتت قيمة الليرة اليوم لا توازي أكثر من 1.7% مقارنة بقيمتها قبل حصول الأزمة.

قيمة الدين العام اليوم

حتّى أواخر شهر آب الماضي، كانت قيمة الدين المتبقي بالليرة اللبنانيّة تقارب حدود 54.58 ألف مليار ليرة لبنانيّة، ما يوازي أقل من 610 مليون دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرائج. وبهذا المعنى، تخلّصت الدولة اللبنانيّة من نحو 53.65 مليار دولار أميركي، من الديون العامّة المقوّمة بالليرة، بسبب التطوّر المتمثّل بانهيار سعر الصرف. لكن وفي مقابل هذا التطوّر الإيجابي، تراكمت على الدولة اللبنانيّة حوالي 14 مليار دولار أميركي من الفوائد التي استحقّت على سندات اليوروبوند، والتي لم يتم تسديدها طوال السنوات الماضية بفعل قرار التوقّف عن السداد. مع الإشارة إلى أنّ الفوائد على هذه السندات كانت ستستحق على أي حال، والذي اختلف -بسبب التوقّف عن الدفع- هو تضخّمها كالتزامات على الدولة للتخلف عن السداد.

في النتيجة، بات حجم الدين العام يقارب 46.21 مليار دولار، ومنه نحو 98.6% عبارة عن سندات اليوروبوند وفوائدها المتراكمة، بينما لم تعد تشكّل السندات بالليرة سوى جزءاً يسيراً جدًا من إجمالي الدين. وقيمة الدين العام، باتت توازي 53% فقط من الدين الإجمالي قبل حصول الأزمة، ما يبيّن بوضوح تأثير انهيار سعر الصرف على هذا الصعيد.

ورغم كل ذلك، لا يزال حجم الدين العام متضخّمًا، قياسًا بحجم الاقتصاد المحلّي، الذي تآكل خلال سنوات الأزمة الماليّة. فإذا ما أخذنا بالاعتبار تقديرات صندوق النقد لحجم الناتج المحلّي، يتبيّن أن حجم الدين العام الحالي بات يقارب 1.63 أي ضعف حجم الناتج، وهي نسبة مرتفعة جدًا وغير مستدامة. والحل لهذه المسألة، كما هو معلوم، سيكمن في التفاوض مع حملة سندات اليوروبوند، لإعادة هيكلة هذه الديون وفق قيم وفوائد واستحقاقات جديدة، ما سيعيد الدين إلى مستويات مستدامة على المدى البعيد.

تركيبة الدين بالليرة

بالعودة إلى تركيبة الدين العام بالليرة، من اللافت أن قيمة الدين المسجّلة أواخر شهر آب، والبالغة 54.58 ألف مليار ليرة كما أشرنا، كانت أقل بنسبة 6.54%، مقارنة بمثيلتها قبل شهر بالضبط، كما عكست انخفاضًا بنسبة 26.54%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وهنا، يقتضي التذكير بأن قيمة هذه السندات كانت تقارب 74.29 ألف مليار ليرة، أواخر شهر آب من العام الماضي، ما يدلّ على حجم الانخفاض في قيمة هذا الدين.

انخفاض قيمة السندات المقومة بالليرة، يُمكن تفسيره بقرار وزارة الماليّة وقف إصدار هذا النوع من السندات، من كانون الأوّل 2023، ما فرض تسديد قيمة السندات المستحقة من دون الاستدانة من جديد لتغطية قيمة السداد. وعلى هذا الأساس، وبات يعني استحقاق كل شريحة من شرائح هذه السندات تخفيض قيمة الدين الإجماليّة، وصولًا إلى تسديدها بالكامل مستقبلًا.

ولفهم الانخفاض المتوقّع مستقبلًا في قيمة هذه السندات، يمكن الإشارة إلى أنّ هناك 6.73 ألف مليار ليرة من سندات الدين التي ستستحق بالعملة المحليّة خلال هذه السنة، على أن يليها 16.61 ألف مليار ليرة من السندات التي تستحق العام المقبل، ثم 7.19 ألف مليار ليرة من السندات التي تستحق خلال العام 2027. وفي النهاية، من المتوقّع أن تستحق آخر شرائح السندات المقومة بالليرة خلال العام 2033.

أخيرًا، ما يمكن استخلاصه من كل هذه الأرقام هو وجود مصلحة على مستوى ماليّة الدولة، في إبقاء سعر الصرف عند مستوياته الحاليّة، من دون رفع قيمة الليرة حتى لو توفّرت القدرة لذلك. فرفع قيمة الليرة اللبنانيّة في سوق القطع، سيعني رفع قيمة الدين العام المتبقي بالليرة اللبنانيّة، وهو ما سيعيد رفع قيمة الدين الإجمالي إلى مستوياته السابقة. وهذا ما يفسّر لجوء مصرف لبنان إلى امتصاص فائض الدولارات المتداولة في السوق، عبر شرائها، بدل السماح لتوازنات العرض والطلب برفع سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالبنك الدولي يرفع توقعاته لنمو الشرق الأوسط
المقالة القادمةشحادة يطلق شبكة LAIN: منصة جديدة لتعبئة رأس المال ودعم الشركات الناشئة