يشهد التسوق الإلكتروني تحوّلا عميقا بفعل التطور المتسارع في التقنيات التكنولوجية، حيث لم يعد المستخدم بحاجة إلى إدخال كلمات مفتاحية في محركات البحث التقليدية للعثور على المنتجات، بل بات بوسعه التفاعل مع أنظمة ذكية تفهم نواياه.
ويجعل هذا التحول الذكاء الاصطناعي الذي يقدّم توصيات مخصصة وسريعة، منافسا جديا لمحركات البحث في بيئة التجارة الرقمية، ويعيد رسم خارطة العلاقة بين المستهلكين والتكنولوجيا.
وأحد أهم أوجه التنافس يتمثل في قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على تحليل سلوك المستخدم وتقديم نتائج مخصصة بدرجة تفوق قدرات محركات البحث مثل غوغل.
وبينما تعتمد محركات البحث على الكلمات المفتاحية والتطابق النصي، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتوظيف التعلم الآلي لفهم تفضيلات المستخدم، وسجلات تصفحه السابقة، وتاريخه الشرائي، وحتى تفاعلاته مع المنتجات على شبكات التواصل الاجتماعي.
ونتيجة لذلك، لم تعد تجربة البحث عن منتج مجرد عملية إدخال استعلام في خانة بحث، بل أصبحت تجربة تفاعلية وشخصية، حيث توصي الأنظمة الذكية بالمنتجات قبل أن يفكر المستخدم حتى في البحث عنها.
وفي مؤشر على هذا التغير، أظهرت دراسة بحثية صدرت الأربعاء أن أكثر من نصف مستخدمي الذكاء الاصطناعي يلجأون إليه عند التسوق عبر الإنترنت قبل محركات البحث.
وأفاد نحو 3 في المئة ممن شملهم مسح أجرته مؤسسة أبحاث السوق الأوروبية نورستات، ومقرها أوسلو، بأنهم يفضلون دائما استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي على محركات البحث عند التسوق عبر الإنترنت.
وأشار 14 في المئة آخرون إلى أنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي في الغالب، في حين ذكر 35 في المئة أنهم يستخدمونه في بعض الأحيان.
وشارك في الاستطلاع الذي أُجري في شهر يونيو الماضي 7282 شخصا تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاما من ألمانيا والمملكة المتحدة والسويد والنرويج والدنمارك وفنلندا.
ويلجأ المستهلكون إلى الذكاء الاصطناعي بشكل متكرر لشراء مستلزمات السفر عبر الإنترنت بنسبة 33 في المئة. يليه 22 في المئة في الإلكترونيات الاستهلاكية، و20 في المئة في منتجات “اصنعها بنفسك” ولوازم الهوايات، و19 في المئة في البرامج أو الاشتراكات الرقمية.
وتُعد نسبة استخدام الذكاء الاصطناعي منخفضة نسبيا في مشتريات الأزياء والملابس، حيث لا تتجاوز 13 في المئة، بينما تُستخدم في 12 في المئة من مشتريات مستحضرات التجميل و7 في المئة من مشتريات العقارات.
ويستخدم الناس في ألمانيا الذكاء الاصطناعي في التسوق بدرجة أقل بكثير من نظرائهم في الدول الأوروبية. ومع ذلك، فهم متقدمون في استخدامه المهني، حيث أفاد نصف المشاركين بأنهم يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي يوميا أو عدة مرات أسبوعيا في العمل.
ومن بين أدوات الذكاء الاصطناعي، يتفوق تشات جي.بي.تي من أوبن أي.آي على منافسيه بفارق كبير، حيث يستخدمه بانتظام 86 في المئة من مستخدمي هذه التقنيات المتقدمة.
محركات البحث لا تزال تحافظ على بعض التفوق في حالات معينة، خاصة عندما يكون المستخدم في مرحلة الاستكشاف
وبالمقارنة، أكد 26 في المئة أنهم يستخدمون بانتظام برنامج جيمني من غوغل، بينما يستخدم 20 في المئة برنامج مايكروسوفت كوبيلوت كثيرا.
ووجدت الدراسة أن روبوت الذكاء الاصطناعي الصيني ديب سيك، الذي يُعد موضوع نقاش حاد بين الخبراء والمدافعين عن حماية البيانات، لا يستخدمه المستهلكون الأوروبيون بانتظام.
وفي عام 2024، أظهرت تقارير صادرة عن مؤسسات تحليل السوق مثل ستاتيستا وماكينزي أن أكثر من 35 في المئة من المتسوقين الرقميين في الولايات المتحدة وأوروبا يفضلون التفاعل مع مساعدين ذكيين مدعومين بالذكاء الاصطناعي بدلا من البحث التقليدي.
وخلصت هذه التقارير إلى أن التركيز كان على فئات المنتجات المعقدة مثل الإلكترونيات والأزياء ومستحضرات التجميل.
ويعزى ذلك إلى أن المساعدات الذكية لا تقترح فقط، بل تجيب عن أسئلة تفصيلية، مثل “ما أفضل حذاء رياضي للجري في الطقس البارد؟” أو “ما هي أكثر الكاميرات ملاءمة للمبتدئين؟”، وهي أسئلة يصعب على محركات البحث التقليدية التعامل معها بكفاءة مماثلة.
فمثلا، بدلا من أن يبحث المستخدم عن “جاكيت شتوي أسود مقاوم للمطر”، يكفي أن يكتب أو يقول ببساطة “أحتاج جاكيتا للشتاء يناسب المطر والسفر”، ليقوم النظام بفهم السياق وتقديم مجموعة مختارة بعناية.
وبعض الأنظمة باتت تدعم البحث الصوري، حيث يمكن للمستخدم تحميل صورة منتج ما، ويقوم الذكاء الاصطناعي بتحديد المنتجات المشابهة أو ذات الصلة بصريا، وهي ميزة تتجاوز قدرات محركات البحث النصية التقليدية.
وفي هذا السياق، يشكّل الذكاء الاصطناعي تهديدا وجوديا لنموذج محركات البحث الكلاسيكية، التي لطالما اعتمدت على الإعلانات المدفوعة والكلمات المفتاحية كوسيلة رئيسية لتوجيه حركة الزبائن نحو المتاجر الإلكترونية.
وكلما زادت دقة التوصيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، قلت حاجة المستخدم إلى العودة إلى محركات البحث، مما ينعكس سلبا على عدد الزيارات والنقرات التي تعتمد عليها هذه المحركات كمصدر أساسي للإيرادات.
لكن التحدي لا يقف عند التوصيات فقط، بل يمتد إلى تجربة ما بعد الشراء، حيث باتت أنظمة الذكاء الاصطناعي تلعب دورا حيويا في متابعة الطلبات، تقديم الدعم الفني، معالجة المرتجعات، وحتى توقع سلوك الزبائن واحتياجاتهم المستقبلية.
ويقول المختصون إن هذا النوع من التفاعل المستمر والذكي يعزز ولاء الزبائن للمنصات التي تستخدم هذه التكنولوجيا، ويجعل من الصعب على محركات البحث التقليدية استعادة دورها السابق كمحطة انطلاق لتجربة التسوق.
ورغم ذلك، لا تزال محركات البحث تحافظ على بعض التفوق في حالات معينة، خاصة عندما يكون المستخدم في مرحلة الاستكشاف الأولى، أو عندما يرغب في مقارنة الأسعار بين منصات مختلفة بشكل شامل.
ولكن حتى هذه الميزة بدأت تتآكل مع دخول أدوات ذكاء اصطناعي مثل المساعدات الذكية المتكاملة مع المتاجر، والتي تستطيع تقديم مقارنات لحظية وشاملة دون الحاجة إلى الانتقال بين مواقع متعددة.



