الرئيس عون يضع قواعد جديدة للعبة السياسية والاقتصادية

قلب الرئيس ميشال عون البارحة من الصرح البطريركي، المشهد السياسي والاقتصادي الذي يعيش في عطلة الأعياد المجيدة من خلال تصريح أقل ما يُقال عنه انه قنبلة من ناحية وضعه قواعد جديدة للعبة السياسية والاقتصادية. إذ شدّد على أن مرجعية الحلّ هي بعبدا وأن من لا يملك الحلّ فليأت إلى بعبدا حيث مكانة رئاسة الدولة الرئيس ميشال عون التي تمتلك الحلّ.

ورفع الرئيس عون من مستوى أهداف الموازنة مع تضييق هامش التحرّك إذ قال «لبنان سيزدهر وسيخرج تدريجيًا من الصعاب التي تواجهه» وهذا يعني أن هدف الموازنة سيكون اقتصاديًا وماليًا. وإذ شدّد على أن الأزمة التي يمر بها لبنان هي قيد المعالجة، قال «أننا لم نعد نملك ترف التمادي بالوقت، ومن غير المقبول الاستمرار في هذا البطء… وبعد معالجة ملف الكهرباء سننصرف إلى الموازنة، فالخطّة الاقتصادية ومعالجة الموضوع البيئي».

ولكن الكلمة الأقوى في تصريح الرئيس عون تناولت الضرائب حيث قال «ما ينشغل بالكن، لا ضرائب على الفقراء، نعرف كيف يجب ان تُفرض وعلى مَن».

هذا التصريح فرض قواعد للعبة السياسية تمثّلت بمرجعية رئاسة الدوّلة ليس فقط سياسيًا بل أيضًا اقتصاديًا وماليًا وبيئيًا وبالتالي لن يكون هناك أي موازنة لا ترضى عليها بعبدا. والأهم أن الرئيس عون رسم التوجّهات العامّة وخريطة الطريق التي على الحكومة اتباعها مع فرضه لقيود تمنع المسّ بجيوب المواطنين من خلال الضرائب داعيًا إلى التسريع في إنجاز الموازنة بالقول «من ليس له الخبرة لإنهائها بسرعة ليتفضّل إلى بعبدا ونحن نقوم بإنهائها له». كما أنه حدّد التوقيت من خلال طلبه من الجميع الانتهاء من وضع الخطة قبل نهار الخميس.

هذه المُعطيات الجديدة التي فرضها الرئيس عون تأتي في ظل التسريبات الإعلامية عن اقتطاع نسبة من أجور وتعويضات الموظفين والعسكريين والتي أثارت موجة احتجاجات في الشارع كان أخرها الإضراب العام الذي دعت إليه هيئة التنسيق العمالية. أيضًا يأتي تصريح الرئيس عون في ظل ورشة الموازنة التي تُجسّد الشرط الأساسي لتحرير أموال مؤتمر سيدر وفي ظل عجز موازنة أصبح يُلامس الخطّ الأحمر من ناحية تمدّده والذي في غياب أي معالجة سيؤدّي حتمًا إلى عواقب وخيمة على الصعيد المالي للدوّلة اللبنانية.

الواضح أن عجزّ الأطراف السياسية عن التوافق على حلول في ما يخصّ الموازنة، دفع بالرئيس عون وهو صاحب المصداقية والقادر على إيجاد الحلول إلى التصريح بأن الحلّ موجود في بعبدا.

لكن ما هو الحلّ الذي تحدّث عنه الرئيس عون؟ ومن قصد بقوله « لا ضرائب على الفقراء، نعرف كيف يجب ان تُفرض وعلى مَن»؟ هل هي المصارف، أصحاب رؤوس الأموال، أم الفاسدون الذين استفادوا من المال العام؟

في الواقع موقع الرئيس عون كرئيس قوي وعناده البنّاء يفتحان الفرضية على كل شيء وهو الذي قال «لا تُراهنوا على تعبي في محاربة الفساد».

في احتفال نقابة المحامين، صرّح الرئيس عون أنه «يتوجّب تحرير القضاء من تدخّل أي مرجعيّة سياسيّة أو حزبية أو مذهبية». ودعا السلطة السياسية إلى اتخاذ تدابير مُجدية لوقف أبواب هدر المال العام وسلبه وخفض الإنفاق والاستدانة والحد من الفساد والمُحاصصة. وأضاف يجب لملمة مال الدوّلة من مختلف مصادره وجمع ما يتوجّب على المواطنين من ضرائب ورسوم لمصلحة الدوّلة في جميع المناطق ومن الجميع. وشدّد على ضرورة تحديد مساحات عمليّة التقشّف والحرص على أن يكون على حساب ذوي الدخل المحدود والطبقات الفقيرة.

هذا التصريح يُحدّد الحلّ الذي قصده الرئيس عون في تصريحه في الصرح البطريركي البارحة ويُعطي فكرة عن الإجراءات التي ستكون في الموازنة. لكن يبقى السؤال عمن هو المقصود بـ «لا ضرائب على الفقراء، نعرف كيف يجب ان تُفرض وعلى مَن»؟

أخذ مشروع موازنة العام 2019 طريقه إلى مجلس الوزراء الذي من المفروض أن ينكب على دراسته بهدف رفعه إلى مجلس النواب لإقراره. وإذا كانت الموازنة تُجسّد خطّة الدوّلة المالية والاقتصادية للعام 2019، إلا أن هذا الأمر يضع كل الملفات الاقتصادية والمالية المُعقدة والتي هي موضوع خلاف بين الأطراف على الطاولة وبالتالي تُصبح الموازنة رهينة الاتفاق السياسي على هذه الملفات. هذا الأمر يُرجّح التأخّر في إقرار الموازنة إلى أبعد من الفترة التي التزم بها الرئيس الحريري خلال جلسة الثقة، وبالتالي فإن هذا التأخير سيُضّعف حكمًا القرارات الإجرائية في الموازنة والهادفة إلى خفض العجز. إلا أن تصريح الرئيس عون جاء ليُعدّل في هذه المُعطيات ليظهر من خلاله أن تاريخ أخر أيار هو موعد جدّي لإقرار الموازنة.

موازنة الدوّلة اللبنانية هي التي تُجسّد السيادة المالية للدوّلة اللبنانية. هذه السيادة مُغتصبة! نعم السيادة مُغتصبة من قبل الفساد الذي يحتمي بمبدأ وضعته السلطة السياسية منذ اتفاق الطائف، هذا المبدأ هو «السلم الأهلي فوق كل اعتبار». فالمسّ بأي فاسد في الدوّلة يتحوّل مباشرة إلى مساس بالطائفة التي ينتمي إليها وبالتالي يتراجع القضاء أمام الضغط الذي يُمارس عليه.

المجتمع الدوّلي يُطالب لبنان بفرض سيادته المالية على أراضيه من خلال ضبط الحدود البحرية والبرّية والجوية ولكن أيضًا من خلال التعاملات الاقتصادية والمالية والإدارية التي تحصل على الأرض اللبنانية. والظاهر من تسلسل الأحداث أن هذا الأمر يواجهه مبدأ السلم الأهلي الذي يمنع على الدوّلة من بسط السيادة المالية. الحدود البرية هي مسرح تهريب البضائع يوميًا مُحمّلة الدوّلة خسائر بعشرات الملايين من الدولارات. أما المرافق العامة البحرية فحدّث ولا حرج، إذ ان الفساد المُستشري فيها يحرم خزينة الدوّلة مليارات سنويًا تبحث عنها السلطة السياسية بين أجور الموظفين!

يدافع الباحث الاقتصادي كينز عن تدخّل الدوّلة في الاقتصاد وألا يقتصر هذا الدور على ضبط الأمن. ويُضيف أن الخلل في الاقتصاد والمالية العامة والذي ينبع من سلوك اللاعبين الإقتصاديين لا يُمكن أن تصحيحه إلا من خلال تدخّل الدولة وذلك من خلال ثبات النشاط الاقتصادي، إعادة توزيع الثروات لدعم الاستهلاك، والترويج لمسار نمو مثالي قائم على تراكم رأس المال بهدف الإستثمار. كل هذا من خلال السياسة المالية للدوّلة اللبنانية، فهل هذا ما نراه في موازنة الدوّلة اللبنانية؟

بالطبع لا، فقد اتبعت الحكومات المُتعاقبة مبدأ «اليد الخفية» (أدم سميث) والتي تترك للأسواق قيادة القارب. إلا أنه معروف في عالم الفيزياء مبدأ التشرذم (Entropy) الذي ينص على أي نظام منتظم يتجه إلى الفوضى إذا تُرك من دون ضوابط وتحفيزات. وبالتالي يُمكن القول إن ما نشهده اليوم من تخبّط اقتصادي ومالي (مالية الدوّلة) هو نتاج تخلّي الدوّلة عن دورها في تنظيم اللعبة الاقتصادية وفرض السيادة المالية. فهل قرّر الرئيس عون من خلال محاربته للفساد، العامل الأول في فشل الدوّلة، استعادة سيادة الدوّلة المالية؟

الملفات التي تُعيق إقرار الموازنة عديدة وعلى رأسها مكافحة الفساد والذي يشمل مُعظم الأنشطة المالية والاقتصادية. لم يلحظ طرح مشروع موازنة العام 2019 ذكر أي إجراء إصلاحي في ما يخص الأملاك البحرية والنهرية والتي تُعتبر من أكبر خسائر الدوّلة. فهناك 5 مليون متر مربّع من هذه الأملاك التي يستفيد منها أفراد ومؤسسات منها 800 ألف مُشرّعة مع مدخول سنوي لا يزيد عن الـ 50 مليون دولار أميركي في حين أن الباقي وقدّره 4.2 مليون متر مربّع مُستباح من دون أي إطار قانوني. وعلى إعتبار أن الدوّلة فرضت 100 دولار أميركي فقط سنويًا على كل متر مربّع فإن هذا يؤمّن نصف مليار دولار أميركي لخزينة الدوّلة اللبنانية. إذًا لماذا لا تتمّ مُعالجة هذا الملف؟ الجواب في مبدأ «السلم الأهلي».

المرافئ البحرية هي باب فساد أيضًا يحرم الدوّلة مداخيل كبيرة. فكيف يُمكن تبرير استيراد بـ 20 مليار دولار أميركي وتصدير بـ 3 مليار د.أ. أميركي في مقابل مداخيل لا تفوق 2100 مليار ليرة لبنانية (رسوم على التجارة والمبادلات الدولية في العام 2016) أي ما يوازي 6% من إجمالي التبادل التجاري؟ الجواب في مبدأ «السلم الأهلي».

أيضًا كيف يُمكن تبرير أن رسوم مرفأ بيروت المُقدّرة بـ 300 مليون دولار أميركي في العام 2016 لا تدخل إلى الخزينة وهي ضريبة سيادية للدولة اللبنانية؟ الجواب في مبدأ «السلم الأهلي».

أيضًا كيف يُمكن تبرير الفساد في التخمين العقاري والذي يخسّر الدوّلة اللبنانية ما يُقارب الـ 350 مليون دولار سنويًا؟ أليست رسوم التسجيل هي ضريبة سيادية؟ ومن يحمي الفاسدين؟ الجواب في مبدأ «السلم الأهلي».

أما التهرّب من ضريبة الدخلّ فحدّث ولا حرج، إذ ان مُعظم الشركات تمتلك دفترين حسابيين ومُعظم هذه الشركات تُقدم حساباتها لوزارة المال على أنها لم تجن أرباحًا أو حتى أنها في حال خسارة. ويُعتبر أيضًا التهرب من دفع الضريبة على القيمة المضافة من أكثر قنوات الفساد المُوجعة للخزينة العامّة حيث ان سلسلة التهريب-البيع نقدًا-عدم التصريح هو العنصر الأساسي في اللعبة. على هذا الصعيد، يتوجّب ذكر أن الاقتصاد غير الرسمي (أي خارج عن سلطة الدوّلة) بحدود 38% من الاقتصاد.

من جهة القطاع المصرفي، هناك شبه استحالة للتلاعب على القوانين والتهرّب من دفع الضرائب نظرًا إلى الرقابة المزدوجة التي تخضع لها (مصرف لبنان ووزارة المال)، لكن الأنظار سُلطت على هذا القطاع بعد الهندسة المالية التي تمّت في العام 2016 في ظل ظرف اقتصادي صعب ومالية عامّة في تراجع.

المعروف أن الإجراءات المُقترحة (المُسرّبة إعلاميًا) في مشروع الموازنة لن تكفي للجم العجز بالمقدار المطلوب في مؤتمر سيدر. لذا سيكون هناك خياران أمام السلطة: (1) مكافحة الفساد في البنود المنصوص عليها أعلاه، و(2) التوجّه إلى فرض ضرائب.

الإجراءات التي ذكرها الرئيس عون في نقابة المحامين تدّخل في ظل الخيار الأول، لذا الاحتمال هو أن يكون التوجّه نحو إجراءات موجعة للأشخاص والمؤسسات الذين استفادوا من المال العام عن غير وجه حق. أما في ما يخصّ الضرائب، فنرى أن هناك احتمالين: الأول الطلب من المصارف (ليس بسبب الفساد بل بحكم امتلاكها للأموال) المُساهمة مع الدوّلة. والثاني قد يكون استرجاع ثروات للدولة تمت السيطرة عليها بصورة غير مشروعة.

على كلٍ ما بعد تصريح الرئيس عون لن يكون كما قبله، وبالتالي يتوجّب الانتظار خلال الأيام والأسابيع القادمة لمعرفة الترجمة العملية لهذا التصريح الذي قلب المُعطيات.

بواسطةبروفسور جاسم عجاقة
مصدرالديار
المادة السابقةانطوان منسى: كفاكم تهويلاً بإنهيار اقتصاد لبنان وماليته
المقالة القادمةوفاة 3 من أولاد صاحب “Vero Moda” و”Jack&Jones” في تفجيرات سريلانكا