قد يحلو لأحدهم، ومن باب التمرين الذهني، أن يتخيّل التاريخ القريب من دون رياض سلامة في مصرف لبنان. لنشطب سلامة من المعادلة، ونحاول البحث في سيناريو بديل.
شطب سلامة من التاريخ
تعالوا لنفترض أنّ الطالب المُتخرّج حديثًا من الجامعة الأميركيّة في بيروت، رياض توفيق سلامة، لم يوفّق –لسبب ما- في مقابلة العمل مع مؤسسة “ميريل لينش”، فور نيله شهادة الاقتصاد عام 1973. هذا مُحتمل جدًا. يحدث أنّ يُخطئ –أو في حالتنا، يُصيب؟- المدراء في تقييم أهليّة المُتقّدم لوظيفة.
هذا الرجل، رياض، في التاريخ الافتراضي الذي نعيد كتابته الآن، لن يصبح مسؤولًا عن عمليّة شراء الأسهم في المؤسّسة المذكورة. ولن يكون مَقصد رجال الأعمال العرب فيها، ومنهم المستثمر اللبناني السعودي –يومها- رفيق الحريري. الحريري، الذي كان يُحضّره التاريخ للعب أدوار كبيرة في بلده الأم، لبنان، لن يتعرّف على رياض، ولن يستقطبه حاكمًا للمصرف المركزي.
في هذا السيناريو، كان يمكن لرياض أن يبحث عن مستقبله لاحقًا في أفريقيا، كحال عائلته التي بنت ثروة من عملها هناك. أو كان يمكن أن يهاجر ويبني مسيرة مهنيّة في أسواق المال في لندن أو نيويورك، أو أي مكان. لا يهم. في النتيجة، غادر رياض الطريق التي سلكها نحو حاكميّة المصرف المركزي. نحن نتخايل مصرف لبنان الآن، من دون التقاطع مع مسيرة رياض سلامة، السيّئة الذِكر والسمعة.
سيمشي التاريخ نحو العام 1993، بعد وقتٍ قصير من تأليف أوّل حكومة لرفيق الحريري. بدأ الرجل بوضع رجاله في مؤسّسات الحكم، وخصوصًا تلك التي تتصل بالمجال المالي. وكان عليه البحث عن يد يمنى في حاكميّة المصرف المركزي، بعد دفع الحاكم السابق ميشال الخوري –ونوّابه الأربعة- للاستقالة الطوعيّة. لا يوجد هنا رياض سلامة.
سنسمّي الحاكم الآخر، في الرواية البديلة الحالمة، زهير.
السيناريو المتفائل: سلسلة الأحداث السعيدة
مهما كان كاتب هذا السيناريو متفائلًا، يصعب تخيّل زهير كحقوقي أو رجل قانون صارم، من صُنف كل من سبقه في هذا المركز، كحال إلياس سركيس أو فيليب تقلا أو إدمون نعيم أو ميشال خوري. كان مشروع الحُكم يومها، وخصوصًا في جانبه الاقتصادي، لا يتّسق أو ينسجم مع عقليّات شديدة الانضباط، من هذا النمط. وأغلب الظن، كانت شخصيّة من هذا النوع ستبدو شديدة التزمّت، أو “بورنيه” كما يُقال بالفرنسيّة، داخل فريق العمل المالي المتحكّم بإدارات الدولة ونهجها المالي.
لكنّ المتفائل، بإمكانه أن يتخايل زهير، وبعكس رياض سلامة، كشخصيّة متعمّقة تقنيًا وعلميًا في أدوات إدارة المصرف المركزي، وصياغة السياسات النقديّة والمصرفيّة، بدل أن يتعامل مع المصرف بوصفه كازينو، أو ساحة مضاربة. زهير مصرفي مخضرم وإبن أسواق المال، كحال جيروم باول، الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي عمل كمصرفي استثماري، بل وأسّس سابقًا شركته الاستثماريّة الخاصّة. زهير وفيّ للرأسماليّة التي صنعته مهنيًا، وهو حريص على حمايتها برموش العين، بنزاهة فائقة، وحماية نظامها المالي والمصرفي.
في السيناريو المتفائل، سيثبت زهير للحريري الأب أنّ مشروعه للبلاد لن يستقيم من دون انتظام مصرفي ونقدي بعيد الأمد. لا يمكنك أن تجعل من بيروت هونغ كونغ، كما كان يُقال يومها، إذا كان نظامك المالي يُبنى فوق “خربة”. اللعب في الماليّة العامّة وتوزيع المغانم هناك يمكن استيعابه، وستتحمّل موازنة الدولة الخسائر. لكنّ إدارة الشأن المصرفي بالتحديد يجب أن تكون محيّدة. في هذا السيناريو، سيكون زهير براغماتيًا في التعامل مع السياسة الاقتصاديّة، ومع السياسيين أنفسهم، لكنّه سيُبعد السياسة النقديّة وإدارة القطاع المصرفي عن البهلوانيّات.
سنمضي في سلسلة الأحداث السعيدة المُتخيّلة: لن يفرض زهير على المصارف منذ عام 2001 أن تضع احتياطيًا إلزاميًا لديه، بالعملات الأجنبيّة، لتمويل مغامراته. ولن يسعى لامتصاص هذه السيولة بشهادات الإيداع، بفوائد مرتفعة. بل على العكس تمامًا: سيفرض على المصارف حدًا أقصى لتوظيفاتها بالدين العام وشهادات الإيداع، بالدولار، بدل دفعها إلى زيادة هذه التوظيفات، بالإغراء أو الإكراه، كما كان يجري دائمًا. وسيفرض عليها حدًا أدنى من التوظيفات، في الاستثمارات الآمنة خارج لبنان، لحماية أصولها.
زهير هذا، سيحرص على الاستقرار النقدي، بسياسة تضمن تذبذب الليرة ضمن هامش معيّن. لن يكون ثبات سعر الصرف على حساب احتياطاته، وأموال المصارف. وحين تدخل البلاد حقبة العجز في الميزان المدفوعات عام 2011، لن ينفق الدولارات للحفاظ على ثبات سعر الصرف، ولن يقوم بهندسات ماليّة لإعادة تعويم الاحتياطات. بل ستكفل السياسة النقديّة القائمة تخفيض سعر الصرف الليرة بهامش معقول، لإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات.
في كل الحالات: لن يخلق زهير شركة فوري عام 2002، ولن يتورّط في الهندسات مع شركة أوبتيموم، ولن يكون مهتمًا بتأسيس شركات الواجهة في أوروبا والجنّات الضريبيّة، ولن يملك ما يخفيه أو يخشى من كشفه. لن يكون شخصيّة قابلة للابتزاز والمقايضة، مثل رياض سلامة. وعقله سيبقى في المؤسّسة التي يديرها.
كل ما سبق ذكره، لن يجعل لبنان جنّة اقتصاديّة: سيستمر الهدر في الميزانيّة العامّة، وسيكون ذلك على حساب كفاءة وإنتاجيّة الإدارة العامّة. وستبقى السياسة الاقتصاديّة الهشّة على حالها. بل سيضطر زهير أو المصارف إلى تمويل العجز بالليرة، لكنّه سيلتزم بضوابط الإقراض المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف. وهو في أي حال، لن يتورّط في هدر الدولارات، العملة الصعبة، وخلق كتل الخسائر –أو الفجوة- التي لا يمكن التعامل معها محليًا.
بقاء زهير في موقعه، سيحتاج إلى براغماتيّة فائقة في التعامل مع السياسيين، في مختلف المحطّات: أيّام الحريري الأب، ومع الوصاية السوريّة، ثم في حقبة ما بعد 2005، وبعد 2011، وهكذا دواليك. على هؤلاء أن يفهموا معنى الانهيار، ومعنى أن لا يبقى ما يمكن سرقته. وفي بعض الأحيان، قد يكون عليه أن يبالغ أو يبتزّ أو يهوّل. سيكسب ثقتهم، بوصفه الشخص المُستعد لإبقاء السفينة تعمل، كي لا تغرق بالجميع. وعليه أن يخيفهم من هذا الغرق!
الرجل العظيم زهير؟
لو نهض من القبر المؤرّخ الاسكتلندي توماس كارلايل ، صاحب نظريّة “الرجل العظيم”، وقرأ هذه السيناريو، لقال: هذا أحدهم! روح تاريخ العالم لهذا المفكّر، هي سيرة الأفراد الأبطال، الذين شكّلوا بإرادتهم وشخصيّتهم مسارات الأحداث. يمكن لإنسان، بمحض فكره وقراره، أن يغيّر مجرى الأمور ومصائر الأمم. تاريخ البشر ليس سوى معالم، زرعها عبر الأزمنة المختلفة هؤلاء الأفراد.
زهير في هذه الحالة، هو البطل الذي كان من شأنه أن يغيّر تاريخ أمّتنا: هل كان من الممكن أن يحصل للودائع أو الليرة ما حصل، لو كان هناك زهير؟
ثم نصل هنا إلى ما يهمنّا من كل هذه القصّة الخياليّة والغريبة. ويمكن أن نقرأ السؤال معكوسًا، وبصيغة سلبيّة: هل كان من الممكن أن يجري كل ذلك، لو كان هناك نقيض رياض سلامة، في حاكميّة المصرف المركزي، بين 1993 و2023؟ وإذا افترضنا صعوبة أن يبقى رجلٌ نزيه واحد في موقعه طوال هذه المدّة، هل كان سيحصل كل ما حصل لو توالى على الحاكميّة –بطريقة ما- أشخاص يحملون التجربة النقيضة لتجربة رياض سلامة؟
هل كانت المشكلة غياب هذا الشخص العظيم، أو الأشخاص العظماء؟
وهم العظمة: التاريخ يصنع الأدوار
لو استدعينا –مجددًا- أحد آباء علم الاجتماع، هربرت سبنسر، من قبره، ليقرأ هذا السيناريو، سيقول لنا ولكارلايل: “هذا هراء”. البيئة الاجتماعيّة المحيطة هي من يصنع الأفراد القادة، قبل أن يصنعوا هم الأحداث. هذه البيئة، بما فيها الظروف والتوازنات القائمة، تصنع الأدوار أولًا، ثم يأتي من يلعب هذا الدور، طبقًا لمؤهلاته الشخصيّة. زهير هذا، لا يمكن أن يكون موجودًا، ليس لغياب الأشخاص الذي يملكون هذه المؤهّلات، بل لغياب الدور الذي يمكن أن يلعبوه على الساحة.
يوم جاء رياض سلامة إلى المصرف المركزي، كان مطلوبًا أن يُدار المصرف المركزي بعقليّة تشبه عقليّة رياض، وأن تسير السياسة النقديّة وإدارة القطاع المصرفي على هذا النحو بالتحديد. تثبيت سعر الصرف، كان أداةً لتسهيل تمويل الدين العام بالليرة، من قبل المصارف، بأرباح مضمونة ومن دون التحوّط لاحتمالات تقلّب قيمة هذا الدين. وتثبيت سعر الصرف، كان يقتضي مراكمة الاحتياطات، ومن ثم استعمالها في إدارة السياسة النقديّة، وعلى حساب المخاطر المحيطة بالودائع والنظام المصرفي. أي حاكم آخر لمصرف لبنان، بأدوات مختلفة، لم يكن ليجد مكانًا له في تلك المعادلة.
كان رياض جزءًا من معادلة، والمعادلة لا تستقيم إلا بأمثاله.
لنعطي مثالُا آخر: تعيين رياض في منصبه لولاية كاملة جديدة في أولى حكومات عهد ميشال عون، كان يستلزم أن يوزّع –قبلها- ما يكفي من تعيينات وخيرات الهندسات الماليّة، لكل من يعنيهم الأمر. الهندسات الماليّة، التي ساهمت في تراكم الخسائر في تلك الحقبة، كانت وسيلة لتوزيع المغانم على حساب ميزانيّة مصرف لبنان، تمامًا كما كانت وسيلة لـ “شفط” دولارات المصارف والاستمرار بتثبيت سعر الصرف حتّى الرمق الأخير.
دور إجرامي وظيفي ضمن تركيبة
لقد قام رياض بدوره ضمن تركيبة كاملة، ولم يكن من الممكن أن يبقى يومًا في مكانه دون أن يفعل هذا الدور. وهذه الحقيقة لا تقلّل أبدًا من فداحة الارتكابات والجرائم الماليّة التي قام بها الرجل، بل على العكس تمامًا!
فالفضائح التي تفوح رائحتها منذ سنوات، بما يخص عمولات شركتي فوري وأوبتيموم، تعبّر عن “لحسة الأصبع” التي نالها الرجل، مقابل أداء هذا الدور. لكن أسوأ ما فعله لم يقتصر على اختلاس هذه الأموال، بل كان لعبه لأخطر دور ضمن التركيبة: مهندس المسار النقدي والمصرفي الذي أدّى إلى ما نعيشه اليوم.
هذا دور وظيفي إجرامي، قام به سلامة عن قصد، وعن سابق تصوّر وتصميم. ولم يكن ليقبل “بطل” روايتنا المتخيّلة زهير، بالقيام بهذا الدور الوظيفي ضمن العصابة. منطق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، يفرض ملاحقة سلامة على الدور الجرمي الذي قام به، ضمن تلك التركيبة. وهذا يجب أن يتعدّى مسألة العمولات والاختلاسات وحدها، ليطال القرارات الأخطر، التي هندست الواقع النقدي والمصرفي الذي نعيشه.
لكن بالإضافة إلى ذلك، يفرض منطق السياسة التصويب على تلك التركيبة، كي لا تخلق لنا رياض سلامة آخر مجددًا!