الزراعة التعاقدية… مستقبل القطاع بلا منازع

يبقى حديث الساعة في ظلّ الضائقة الإقتصادية هو كيفية توفير أكبر قدر من المواد الغذائية محلياً، بعد أن بُلِيَ لبنان بسياسة الإنفتاح المفرط منذ العام 1992 حتى الآن.

أدّت هذه السياسة إلى توقُف معظم الزراعات، وبالتالي، الى الإعتماد على الإستيراد المدعوم من منشئه، والذي يصل إلى لبنان بسعرٍ أقل من كلفة إنتاجه محلياً. السؤال الأهم، هو كيفية الإنتقال من إستيراد بعض المنتجات الزراعية والغذائية إلى إنتاجها محلياً؟

جرت العادة منذ عقود وحتى تاريخه، أن يستدين المزارع للحصول على البذور المؤصّلة والأسمدة والمبيدات من مستورديها، ويدفع قيمتها من إنتاجه عند الحصاد. كما جرت العادة أن يستأجر المزارع الأرض من مالكيها غير المؤهّلين لزراعتها ويدفع المبلغ المستحق على أقساط. وعليه، كانت وما زالت نتيجة الربح أو الخسارة تقع على عاتق المُزارع، فإمّا تأتي أسعار بيع المحصول مؤاتية فيربح ويسدِّد ما عليه، أو متدنية فيخسر ويراكم الدَّين عليه.

ثم إنّ أسواق مبيع المُزارع ما برِحت محصورة بوسيلتَين:

1- تجّار الجملة المنتشرين في كل المناطق اللبنانية، وهي عرضة لحسومات وعمولات لا قدرة للمزارع على نقاشها.

2- المصدّرون، حيث أنّ دعم الصادرات، والذي توفّره مؤسسة «إيدال»، لا يصل إلى المُزارع بتاتاً، بل يستفيد منه المصدِّر حصراً.

إذاً، وفي ظلّ هذا الوضع المأساوي، لا يمكن الركون إلى مستقبل الزراعة وإلى إنتاج المواد الغذائية المطلوبة لتوفير الأمن الغذائي المنشود. فلا بدّ من اجتراح حلول عمليّة ومعمولٌ بها عالمياً، أو حتى مطبّقة حالياً في لبنان بصورة حصرية في قطاع إنتاج لحوم الدواجن.

الحل يكمن في الزراعة التعاقدية Contract Farming. وهذه تتطلّب من المستوردين ومن المصدِّرين الحاليّين، وهم مموّلون في الأصل للمزارعين ولديهم علاقاتهم الخاصة والمميّزة مع المصارف التي تسهِّل حصولهم على التمويل، أن يتبنّوا هذه النظرية، فينتقِلوا من كونهم مموّلين إلى متعاقدين. فتصبح مهمّتهم توفير مستلزمات الإنتاج الكاملة للمزارعين، واستلام المنتَج منهم لتسويقه، إمّا بأسعار متفق عليها مسبقاً أو مقابل جعالة محدّدة مسبقاً أيضاً.

هنالك طريقتان للتعاقد بين المموِّل والمزارع. إحداهما تُعرف بـ«التعاقد دون بيع أو شراء مقابل جعالة محدّدة سلفاً»، والأخرى بـ«أسعار محدّدة لكل من مستلزمات الإنتاج وقيمة المنتج سلفاً» أيضاً.

الطريقتان تمّ إستخدامهما في إنتاج لحوم الدواجن (الفروج) في لبنان منذ أربعة عقود بنجاح، وأدّتا إلى توفير هذه اللحوم طازجة، كما يرغب بها اللبنانيون، بأسعار دون أسعار اللحوم الحمراء المستوردة، وبكميات قاربت الـ 90 بالماية من حاجة الإستهلاك. هذا النمط من التعاقد جعل إنتاج الفروج أنجح قطاع زراعي في لبنان، يتقدّم سنة فسنة، لمواكبة الزيادة في الإستهلاك. كما وفّر دخلاً مضموناً لأصحاب مزارع الدجاج المنتشرين في كل المناطق اللبنانية، والذي وصل عددهم إلى 2000 مزرعة بين كبيرة وصغيرة.

مثّل المموّلون فئة من أصحاب الخبرة والإختصاص، يتقِنون تربية الدواجن المؤصّلة، ويملكون المفاقس لإنتاج الصيصان، ومصانع الأعلاف لإنتاج الأعلاف الجاهزة، والمسالخ الحديثة لذبح الفراريج لدى وصولها لوزن محدّد وتجهيز مقطعاتها من اللحوم، والسيارات المبرّدة لتوزيع المنتجات الجاهزة على منافذ البيع المختلفة. إذاً، يُعتبر إنتاج لحوم الدواجن مثلاً حيّاً ناجحاً يُحتذى به لإنتاج محاصيل زراعية مختلفة من خضار وفاكهة وبقوليات، أقلّه لتوفير حاجة السوق المحليّة وحتى لتصدير بعضها.

لذلك، فإنّ بإستطاعة مستورِدي الأدوية والأسمدة والبذور المؤصّلة، إنشاء شركات كاملة المواصفات، والإستعانة بمهندسين زراعيين، من أجل إدارة عملية التعاقد مع المزارعين وأصحاب الأراضي، لمدِّهم بالخبرة والإرشاد. والتعاقد يجب أن يكون بالأمانة دون بيعها لهم مقابل الحصول على إنتاجهم، إمّا بأسعار مسبقة التحديد، أو مقابل جعالة محدّدة عن المحصول المرتقب. كما على هذه الشركات إنشاء مراكز حديثة لفرز وتوضيب وتعبئة المنتج الصالح للتسويق والإستهلاك المحلّي أو للتصدير.

بذلك، يتأمّن دخل عادل للمزارعين وأصحاب الأراضي من جهة، كما تتوفّر القدرة لتسويق المنتجات بطريقة سليمة مطابقة للمواصفات العالمية واللبنانية، في لبنان أو خارجه.

 

المهندس موسى فريجي – الجمهورية
المادة السابقةمسلسل انقطاع الأدوية مستمرّ…
المقالة القادمة“تنين الانهيار” ينهش الليرة..