لا شكّ أن أكلاف الإنتاج في القطاع الزراعي ازدادت، إلا أن الأمر لا ينحصر بأكلاف الأسمدة والمازوت المستعمل في جرّ المياه والريّ، إذ تبدو هذه الكلفة مجرّد حلقة من حلقات الإنتاج التي تؤثّر سلباً على القطاع منذ عقود. لذا، فإن محاولة ربط التصحيح في القطاع، بحلقة واحدة من حلقات الإنتاج، لا تبدو مجديةً في نظر الخبراء، بل إن الأمر يحتاج إلى مقاربة مختلفة للقطاع أكثر عمقاً ولا تتأثّر بالعقل الترويجي.
في أكثر من مناسبة، أشار وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال، عباس الحاج حسن، إلى أن الاعتماد أكثر على الإنتاج المحلّي وتخفيف وطأة الأزمة عن المزارع يتطلّبان خفض أكلاف الإنتاج، لكن ارتفاعها ليس عاملاً مساعداً. ويمكن الاستدلال على الكلام نفسه في مؤشر البنك الدولي للأسمدة، إذ ورد أن ارتفاع أسعار الأسمدة عالمياً في 2022 بنسبة 15% سيرفع من كلفة الإنتاج الزراعي.
رغم أن هذه حقائق واضحة للعيان، إلا أن ترتيبها لدى الخبراء مختلف بالدرجة والأولويّة، بل يرون أن التركيز على ارتفاع الأكلاف قد يهدف إلى الهروب إلى الأمام، ويعتقدون أنه يتم استخدام ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية كشمّاعة لهذه الأكلاف، رغم أن الأمر مرتبط بانهيار قيمة الليرة، إذ يشير رئيس المركز اللبناني للبحوث والدراسات الزراعية الدكتور رياض سعادة إلى أنه منذ عقود، وتحديداً منذ عام 1966، لم تمرّ سنة ذهبية واحدة على القطاع الزراعي. في هذه العقود، أقرّ الكثير من الخطط، لكن لم ينفّذ أيٌّ منها بمعزل عن مدى جديّتها والقدرة على تنفيذها. مشكلة القطاع لا تكمن في «ليتر مازوت إضافي، أو زيادة في سعر السماد، بل إن هناك واقعاً مثقلاً بعقليات حكومية لا ترغب في دعم القطاع، وهذا أهمّ من الأكلاف المذكورة» وفق سعادة.
المقصود، أن الخروج من تفاصيل القطاع لمعاينة السياسات الزراعية في إطار الأزمة، هو الأمر الأساسي. فالمزارع لم يتلقّ ضربة زيادة الأكلاف فقط، بل جاءت هذه الضربة فوق إهمال مزمن صارت الحاجة إلى تصحيحه أكبر بعد الانهيار النقدي والمصرفي. فمنذ عام 1975، يتراجع الناتج الزراعي بشكل متواصل، حتى أصبح في عام 2021 نصف ما كان عليه في عام 1976، وثلث ما كان عليه في ذروته في عام 1986. الإهمال المزمن يعني أنه بات على المزارع أن يعاني من ارتباطه المجحف بحلقات إنتاج ترتّب أعباء فوق الأعباء الأساسية عليه. وعندما انفجرت الأزمة، بات عليه أن يدفع ثمن كل هذه الأكلاف بالدولار النقدي وسط غياب أي مساعدة رسمية، في المقابل، يجني محصوله بالليرة. هذا اللاتوازن انعكس سلباً على المزارع. ففي حسابات بسيطة، يتبيّن أن تسعير الأكلاف بالدولار ينتج خسائر في مواسم الإنتاج، يضاف إليها ارتفاع كلفة اليد العاملة التي تصحّحت لتصبح موازية لما كانت عليه سابقاً بنسبة تفوق 80%. هذا هو سبب انخفاض الإنتاج بين عامَي 2019 و2023 بنسبة 60% وفق الأرقام التي يقدّمها سعادة، إذ يشير إلى أن كلفة الإنتاج مقارنة بالسنوات السابقة، قد تكون هي نفسها إذ حُسبت بالدولار، لكن قوّة الفرد الشرائية بالليرة هي العمق الفعلي لأزمة القطاع، أي القدرة على الاستهلاك.
سلسلة الزراعة لا تقتصر على مسائل بديهية مثل الماء والريّ والكهرباء، بل هي تتألف بحسب دراسة سعادة، من ثلاثية الإنتاج، الوسطاء ومقدمي الخدمات وسوق الاستهلاك. أما بشكل عام، فإن الأمر يبدأ مع المزارع، وينتقل إلى ضمان الأرض، ونقل الإنتاج ثم توضيبه وتبريده، ثم نقله إلى سوق الخضر أو للتصدير، وأخيراً المستهلك. ترتبط بهذه السلسلة الزراعية مسائل أساسية عنوانها الكلفة والتوافر؛ مثل الأرض، التمويل، اليد العاملة، مياه الري، المواد، النقل. في إطار هذه السلسلة، فإنه في أوّلها يتكبّد المزارع الخسائر، وفي آخرها يتكبّد المستهلك الخسائر أيضاً. لذا، لا يمكن الحديث عن تصحيح في عنصر واحد أو اثنين في هذه السلسلة، إذ سيكون الأمر بمثابة هدر للموارد. فلنأخذ مثلاً، التسليف المصرفي الذي كان يساوي نحو 200 مليون دولار في عام 2019، لكن الأزمة أوقفته وحرمت القطاع منه، وبالتالي بات يترتّب على العاملين في إطار هذه السلسلة تأمين التمويل بكلفة أعلى أو بسيولة ذاتية. ويضيف سعادة، صحيح أن الأكلاف الأكثر ضرراً على المزارع تتعلق بالتمويل، لكن جهله في إدارة عمله يفقده القدرة على الحساب الحقيقي للإنتاج، وبالتالي يدخل في دوامة من الأضرار تبدأ باستعمال مستلزمات غير صحيحة وتخلص إلى إنتاج محدود. المسألة هنا، لا تتعلق بارتفاع كلفة الأسمدة وسائر مدخلات الإنتاج مثل البذور، إنما فوضى الاستعمال ولا سيما الأسمدة المهرّبة التي لا يمكن الوثوق بها، ستؤدي إلى كمية إنتاج محدودة.
إذاً، لا يمكن مقاربة القطاع الزراعي من منظور بضعة عناصر في أكلاف الإنتاج، إنما يجب أن تكون المقاربة شاملة حتى تصبح مجدية. وهناك دليل واضح على ذلك، يتعلق بالأموال التي أنفقت على القطاع من خلال الهبات، إنما لم تظهر نتائجها في الناتج الزراعي الوطني. يروي سعادة أن دولة الإعمار لم تبدِ أي اهتمام بالزراعة إلى حدّ التجاهل التام، وأن الأموال التي تدفقت على وزارة الزراعة قاربت مليار دولار، لكن لم يظهر أي أثر لها في الناتج الزراعي الذي بقي منذ التسعينيات لغاية 2021 بعيداً جداً عما كان عليه في منتصف الثمانينيات.
250 ألف طن منتجات رزاعية مهدورة
عندما أوقفت دول الخليج، بقيادة السعودية، استقبال الصادرات اللبنانية، ازداد العبء على المزارع اللبناني الذي بات أمام خيارين، بحسب رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين أنطوان الحويك: زيادة أسعار المنتجات، خفض المساحة المزروعة لضمان عدم الكساد. لم يكن أمامه مفرّ لأنه اختبر كساد المحاصيل سابقاً وأدرك أن تراجع الربحية أمر حتمي في أوقات الأزمات كهذه. يقول الحويك إن لبنان كان يصدّر 550 ألف طن من المنتجات الزراعية إلى الخليج ودول أخرى حتى عام 2011، لكن انخفضت هذه الكميات بعد حدوث الأزمة في سوريا إلى 350 ألف طن، ثم بعد توقف السعودية عن استيراد المنتجات اللبنانية انخفضت الكمية إلى 300 ألف طن، أي أن نحو 250 ألف طن ألغيت من قاموس الإنتاج المحلي، وحتى لو أعادت السعودية الاستيراد، فإن 50 ألف طن لا تكفي لإعادة الكميات والنشاط إلى ما كان عليه.