حلّت السرية المصرفية لسنوات خلت ضيفةً على العديد من المنتديات والمحافل الإقتصادية كما والأروقة السياسية، وكان التباين جلياً والشرخ واضحاً بين من يريد من جهة الإبقاء عليها كما هي، ظناً منه أو إيهاماً للغير بأنها نعمة للبنان من حيث إستقطاب الإستثمارات الأجنبية وأموال المغتربين؛ وبين من يعتبر، من جهة أخرى، أنها أصبحت علّة حقيقية وعبئاً ثقيلاً على البلد من حيث تسهيل عمليات الفساد وتبييض الأموال كما وتحفيز الإقتصاد الخفي غير الرسمي، والحؤول بالتالي دون توسيع قاعدة المكلفين وتحسين إيرادات الخزينة وتنويعها وتأمين موازٍ للعدالة الضريبية.
وكان يسهل على البعض التمييز الأفقي بين الطرفين وتصنيف الفئة الأولى ضمن الفريق الليبرالي المشجع للأعمال والرفاهية والسياحة والنمو … بينما تمّ وضع الفئة الثانية المطالبة بإلغاء أو حتى تعديل قانون السرية المصرفية لمواكبة المسار العالمي المناهض للممارسات المالية غير المشروعة (Illicit Financial Flows) في خانة اليسارية المتشددة أو حتى الشيوعية المتوحشة، التي تهدف إلى تغيير وجه لبنان الإقتصادي والإجتماعي والمس بالمبادئ الدستورية.
واستدام هذا النقاش العقيم وتفاقم مع تدهور الأوضاع حتى أضحت السرية المصرفية موضوع الساعة والشغل الشاغل للمنظومة السياسية وحليفتها المالية، كما وللنشطاء والإعلاميين يوم تمّت عرقلة إجراءات التدقيق الجنائي من قبل حاكم المصرف المركزي الذي رفض تقديم جزء كبير من الوثائق والمعلومات التي طلبتها شركة ألفاريز آند مارشال (Alvarez & Marshal) بحجّة السرّية المصرفيّة، عملاً بالمادة 151 من قانون النقد والتسليف المعطوفة على (قانون صادر في 3 أيلول 1956).
مشروع قانون السرية المصرفية
وتجدد الإهتمام بالموضوع أخيراً، مع فرض مشروع قانون تعديل السرية المصرفية من ضمن رزمة القوانين الأربعة التي إشترطها صندوق النقد الدولي من أجل التوصّل إلى اتفاق على برنامج معه.
والجدير ذكره والتذكير به هنا، أن لبنان إعتمد السرّية المصرفيّة منذ العام 1956 بهدف جذب التدفّقات الماليّة إلى لبنان في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، وهي الفترة التي ترافقت مع فورة النفط في الدول الخليجيّة، وعمليّات التأميم في البلدان العربيّة المُحيطة ولا سيّما مصر وسوريا. وبالنتيجة شهد القطاع المصرفي المحلّي تدفّقات هائلة نحوه، فيما أمّن القانون الحماية لهذه الودائع والثروات من السلطات الضريبيّة في بلادها وفي لبنان. إلا أن هذا القانون رغم حسناته وأفضاله قد تسبّب من جهة أخرى في إضعاف المواطنيّة الضريبيّة وتعزيز ثقافة الفساد والإفلات من العقاب، إذ شجّع على التهرّب الضريبي وترسيخ انعدام المساواة في توزيع الدخل والثروة، وكذلك نسف التحقيقات في العديد من القضايا والجرائم الماليّة وأعاق التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمصارف، وأيضاً سمح في تهريب أموال النافذين إلى الخارج.
وبالفعل، ورغم الهدف الجدير بالثناء الذي برر في حينه إقرار قانون السرية المصرفية الصادر في 3/9/1956، وسيما لجهة جذب الإستثمارات وتحقيق النمو الإقتصادي وتشجيع تدفق رؤوس الأموال دعماً لميزان المدفوعات وتثبيت العملة الوطنية، إلا أن هذا القانون قد سهل بالمقابل التهرب الضريبي غير المشروع عن طريق إخفاء وعدم التصريح عن الأصول والأموال المنقولة المودعة لدى المصارف اللبنانية أو من خلالها، وسيما لجهتي الحسابات المصرفية الخاصة وإيرادات رؤوس الأموال المنقولة فضلاً عن التركات والذمم الإرثية؛ مما ألحق، والحال ما تقدم، ضرراً بالمردود الضريبي والإلتزام الطوعي. مع التأكيد إذا لزم أن العائق الأساسي أمام حق الدولة في الإطلاع والتدقيق يكمن في التعديل الحاصل سنة 1961 للمادة 103 من قانون ضريبة الدخل، حيث إستثنى المصارف من موجب إطلاع المراقبين التابعين لوزارة المال على كل ما لديهم من سجلات ومستندات ومعلومات تعود للعملاء المكلفين ومن شأنها المساعدة على تحديد الضريبة المترتبة عليهم.
صعوبة فرض الضرائب
هذا، وقد جعل قانون السريّة المصرفية من الصعب فرض الضرائب على ايرادات “المهن الحرة” (المهندسين والمعماريين والأطباء والمحامين، أساتذة دروس خصوصية، وغيرهم). ورغم أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة في أعداد مقدمي تصاريح ضريبة الدخل، ثمة أدلة على أن جزءاً ضئيلاً من الدخل الحقيقي هو ما يُفصح عنه. إذ يُمكن أن يؤدي التحصيل الكامل لضريبة الدخل إلى زيادة بنسبة 2-4% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك يتوقف على ما إذا كان القطاع غير الرسمي يؤخذ في الاعتبار أم لا. وشكلت السرية المصرفية أيضاً عقبة رئيسية تحول دون تحصيل الضرائب على الأرباح الرأسمالية التي يحققها المقيمون في الأراضي اللبنانية بالخارج، الأمر الذي أدى إلى فقدان مصدر مهم آخر من مصادر الإيرادات وذلك، وفضلاً عن التأثير المباشر للسريّة المصرفية على انخفاض الإيرادات المُحصّلة من رسوم الإِنتقال، إذ تحظر السرية المصرفية المراقبة الفعالة على الحسابات المصرفية التي تنتقل إلى الورثة، مما يخل بأحد أهم العوامل الرادعة التي تحول دون دفع رسوم الإِنتقال كما تُشكل الهبات المقنعة أيضاً ثغرة تُستخدم على نطاق واسع للتهرب الضريبي.
وَهم تحفيز الإستثمارات والتحويلات
يمكن القول أن السرية المصرفية بعد أن كانت مطلقة وشاملة ولا تُخرق إلا بحالات جدّ نادرة ومستعصية لحظها قانون السرية الصادر سنة 1956 أو القوانين الخاصة اللاحقة، قد أصبحت بحكم الساقطة بالنسبة للأشخاص غير المقيمين كما وبالنسبة للأشخاص الذين تحوم حولهم الشكوك والشبهات الكبيرة وليس بوسعهم إثبات العكس لمجلس شورى الدولة. بالتالي لم يعد لبنان كما كان، ملاذاً آمناً للأموال التائهة أو الخارجة عن الشرعية الضريبية الدولية. بالفعل، بعد تفعيل التعاون الدولي لمحاربة التهرب الضريبي في العقدين الماضيين، جرى، سنة 2010، تطوير وتعديل المعاهدة القديمة المتعددة الأطراف للتعاون التقني في المجال الضريبي والمعروفة باسم (the “Convention” MAC).
وهدف هذا التعديل بصورة رئيسية، إلى إدخال المعايير الجديدة المعتمدة من قبل منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) وسيما ما يعرف بمعايير الترقب (foreseeably relevant standard)، كما والسماح للدول غير المنضوية في منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية بتطبيق تلك المعاهدة بصفة عضو.
وأوجبت هذه المعاهدة على الأعضاء تزويد المعلومات الضريبية والمالية، العائدة لمقيمي ورعايا الدول الأعضاء الأخرى المستقصية، غب الطلب (upon request) من دون قيد أو شرط (وسيما لجهة السرية المصرفية)، وأحياناً بصورة عفوية (spontaneous) في حال توفرّ الظروف لذلك، لكي تتمكن الدولة مقدمة الطلب من تطبيق قوانينها الضريبية بصورة فعالة والحدّ من التهرب الضريبي. كما أن المعاهدة تتضمن أيضاً أحكاماً وشروطاً تحفظ سرية المعلومات وضوابط عدم إستعمالها بصورة غير مشروعة للتهديد أو التوعد. أما التبادل التلقائي (automatic exchange) فهو يفترض وفقاً للمادة 6 من المعاهدة عينها توقيع اتفاق خطي ثنائي أو متعدد الأطراف بين دولتين أو أكثر أعضاء في المعاهدة مع الآلية والإجراءات التي يحددانها.
دخل لبنان في الآتون المنوه عنه أعلاه وحاول المناورة بعض الشيء لحفظ السيادة وحماية نظامه الخاص الفريد وذلك، مع إقرار القانون رقم 43 الصادرة بتاريخ 26/11/2015 والذي أرسى آلية لتبادل المعلومات الضريبية المتعلقة بالتهرب الضريبي (Tax Evasion) او الاحتيال الضريبي (Tax Fraud) وفق أصول معينة، وأهمها ربط التبادل بشرط توفّر أدلة ملموسة أو أحكام مبرمة كما وتقويض حالات رفع السرية المصرفية بحالات خاصة مع إمكانية مراجعة القضاء. إلا أنه قد جرى رفض الآلية المعتمدة بموجب القانون المذكور من قبل منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) التي زادت الضغط والتضييق، إلى أن إستصدر مجلس النواب رزمة من القوانين المطلوبة ومنها القانون رقم 55 الصادر في 27/10/2016 الذي ألغى القانون رقم 43 وحدد الأصول والإجراءات الجديدة الواجبة لتبادل المعلومات الضريبية، بشكل يتلاءم مع ما هو مطلوب من قبل المنتدى العالمي وفي المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) إذ لم يبقَ من شروط لإعطاء المعلومات غب الطلب إلا شرط التوافق مع أحكام الإتفاقية الضريبية الثنائية أو المتعددة الأطراف (وفقاً للحال).
وعليه، في حال تم تبليغ لبنان طلب الحصول على معلومات مالية وضريبية من قبل دولة منضوية في المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) أو من دولة تربطها بلبنان معاهدة ضريبية لتفادي الإزدواج الضريبي، بالنسبة لمقيم ضريبي على أرض تلك الدولة وعملاً بقوانينها، فإنه، وفي حال توفّرت العناصر لإعتبار صاحب الحساب أو صاحب الحق الإقتصادي مقيماً في تلك الدولة المتعاقدة، يتم عندها رفع السرية المصرفية عن حساباته وتطبيق الإجراءات الجديدة التي حددها القانون رقم 55 الآنف الذكر.
تعريف المقيم الوارد أو المعاهدة!
وتجدر الإشارة إلى أنه، وفي غياب معاهدة ضريبية لتفادي الإزدواج الضريبي مع تعريفٍ للمقيم، يُطبق عندها تعريف المقيم الوارد في القانون الجديد رقم 60 تاريخ 27/10/2016. أما وفي حال وجود معاهدة، يُرجّح عندها معيار المعاهدة عملاً بأحكام المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية والفقرة (2) من المادة 3 من قانون الإجراءات الضريبية الجديد.
أما التبادل اللقائي (الأوتوماتيكي) فقد بدأ سنة 2018 من طرف واحد (لبنان للخارج) مع أكثر من ستين دولة شريكة (Partner States) إلى حين إستكمال إجرءات إلتزام لبنان بالموجبات والمعايير التي ستسمح له بتلقي المعلومات عن مقيميه.
الأمر الآخر المهم الذي يجري تجاهله عادةً هو أنه مع زيادة مستوى الشفافية عالمياً، لم يعد هناك مجال للملاذات الضريبية؛ وعلى أيّ حال، خسر النظامُ المصرفي اللبناني، وبصورة لا يمكن إصلاحها، سمعتَه بوصفه ملاذاً آمناً. نتيجةً لهذا، لم تعد السرية المصرفية شيئاً مفيداً لجعل لبنان بلداً أكثر جاذبية.
فرص النمو
ومستقبلاً، سيعتمد جذب رؤوس الأموال على فرص النمو لا على السرية المصرفية و/أو المعدلات الضريبية المنخفضة. فكلفة السرية المصرفية عالية جداً من منظور الامتثال الضريبي؛ فهي قطعاً ذات أثر سيئ على ضريبة الدخل (لذوي المهن المستقلة) ورسوم الانتقال والضريبة على إيرادات رؤوس الأموال المستثمرة في الخارج. لذا فمن الصعب تصور نظام ضريبي فعال، ناهيك عن عدم جدوى تنقية النظام المصرفي، دون إلغاء السرية المصرفية.
وأخيراً وليس آخراً، من الوهم الإعتقاد أو التضليل بأن السرية المصرفية كما هي قائمة ومطبقة في لبنان راهناً، ما زالت معتمدة في بلدان أخرى كسويسرا واللوكسمبورغ. ففي سويسرا مثلاً دخلت معركة مواجهة المجتمع الدولي ومحاولة الإبقاء على السرية المصرفية مساراً عسيراً بين عامي 2001 و2009، إلى أن استسلمت وقررت التقيد بالإلتزامات الدولية لجهة تبادل المعلومات الضريبية والكشف عن الحسابات غير المقيمة، كما ووضع ضوابط صارمة على نظامها المصرفي للإنتقال من السرية المصرفية المطلقة إلى السرية المهنية المحكمة. وهذا ما نتوخاه ونأمل به بالنسبة الى لبنان. أما اللوكسمبورغ، فقد تخلى تدريجياً عن السرية المصرفية بسبب الضغط الدولي عليه عن طريق إقتطاعات ضريبية لدى المنبع متزايدة لمصلحة دول الإقامة، مما حدا بأصحاب الحسابات إلى التخلي الطوعي عن قانون السرية المصرفية حتى زواله نهائياً سنة 2015.
لكل هذه الأسباب ولغيرها يقتضي الضغط والمطالبة بإقرار القانون في أسرع وقت بعد تنقيته من بعض الشوائب والسهوات. مع العلم واليقين أن هذا الإصلاح قد أضحى ضرورياً وأساسياً ليس لمحاربة الإقتصاد غير الرسمي والتهرّب الضريبي والفساد والجرائم الماليّة الأخرى، وتأمين تقيّد لبنان بالالتزامات الدوليّة والامتثال لقوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب فحسب، بل أيضاً وسيما للمحاسبة والمساءلة عبر تطبيق القوانين المرعية للتمكن من التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، وبالتالي توزيع المسؤوليات والأعباء الناتجة عن الإنهيار الإقتصادي وإعادة هيكلة الديون والقطاع المصرفي بشكل عادل.