الذهاب نحو البيان الصادر عن قسم العلاقات الإعلاميّة في الصندوق يكشف حقيقة مختلفة تمامًا. فما جرى توقيعه حسب البيان ليس سوى “اتفاق على مستوى الموظّفين”، أي مجرّد إعلان متبادل للنيّات بين بعثة الصندوق والوفد اللبناني المفاوض. أمّا المسار إلى التفاهم النهائي، فسيحتاج في المستقبل إلى العبور بإدارة الصندوق نفسه، والتي تملك بدورها حساباتها وهواجسها وشروطها، ومن ثم المرور بالمجلس التنفيذي للصندوق، الذي يملك توازناته السياسيّة. وقبل الوصول إلى هذه المراحل أصلّا، سيكون على لبنان اجتياز الشروط التي وضعتها بعثة الصندوق، قبل الانتقال إلى مرحلة توقيع الاتفاق النهائي. وحتّى اللحظة، لا يوجد ما يكفل إنجاز ولو جزء يسير من هذه الشروط، خصوصًا كونها بالتحديد الشروط التي عرقلت تقدّم المحادثات طوال الأشهر الماضية.
أمّا العقبة الأهم، فستكون عند عودة الوفد اللبناني إلى الحكومة اللبنانيّة، لمناقشة برنامج التعافي المالي الذي تم العمل عليه مع صندوق، بما فيه خطّة توزيع الخسائر المصرفيّة، وإجراءات الاقتصاص الصريح والقاسي من الودائع. عند هذه المرحلة، سيكون من المتوقّع أن تتحكّم حسابات أخرى بالمشهد الحكومي، وتحديدًا تلك المتعلّقة بالنقمة على القوى السياسيّة التي ستبادر إلى المصادقة على هذا النوع من الإجراءات، وخوف القوى السياسيّة من رد الفعل المتوقّع على هذه القرارات القاسية. وعامل تقاذف المسؤوليّة، سيلعب أيضًا دوره بالنسبة لجميع الإجراءات الموجعة التي يفترض أن يتم اتخاذها في المستقبل.
المطلوب قبل الاتفاق النهائي صعب
ما يطلبه الصندوق، كشروط ملزمة يجب القيام بها قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان، ليس سوى الشروط التي فشلت الطبقة السياسيّة المباشرة بتطبيقها طوال السنتين الماضيتين، أي منذ أن بدأ لبنان محادثاته المتكرّرة مع بعثات الصندوق. فالشروط تشمل على سبيل المثال توحيد أسعار الصرف المعتمدة لدى مصرف لبنان، وهي الخطوة التي فشل المصرف المركزي حتّى اللحظة في القيام بها، بسبب عدم وجود رؤية واضحة للسياسة النقديّة في المصرف، بما يتكامل مع سائر أجزاء مسار التصحيح المالي. مع الإشارة إلى أن منصّة مصرف لبنان، التي يفترض أن تكون أداة تعويم وتوحيد أسعار صرف الليرة، مازالت تعاني حتّى اللحظة من التعثّر الواضح، وتحديدًا من جهة قدرتها على خلق سعر صرف عائم وموحّد يخضع لموازين العرض والطلب.
في مكان آخر، يطلب الصندوق قبل توقيع الاتفاق النهائي وضع استراتيجيّة واضحة لإعادة هيكلة الدين العام على المديين المتوسّط والبعيد. وهو ما يُفترض أن يشمل رؤية لقيمة سندات الدين السيادي بعد إعادة جدولتها وفق آجال وقيم وفوائد جديدة. وهذه المسألة بالتحديد، ما زالت عالقة بانتظار تقدّم المباحثات مع الدائنين في الخارج، ومع جمعيّة المصارف في الداخل. وعلى أي حال، من المعروف أن حساسيّة هذا الشرط تكمن في اتصاله بحجم الخسائر الذي ترفض المصارف تحمّله، نتيجة امتلاكها جزءاً من سندات الدين. وهذه المسألة هي ما سيدفع اللوبي السياسي المقرّب من جمعيّة المصارف إلى عرقلة هذه الإجراءات مجددًا، تمامًا كما جرت عرقلة خطّة حكومة حسّان دياب في الماضي.
الشروط شملت أيضًا وضع استراتيجيّة متفق عليها لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع ضرورة تحديد ومعالجة الخسائر بشكل واضح وصريح وقبل المضي قدمًا بأي إجراء آخر. وهو ما سيعني من الناحية العمليّة وضع الإجراءات الكفيلة بشطب الرساميل المصرفيّة قبل بدء المعالجات التي من شأنها تحميل الخسائر إلى أطراف أخرى. وهنا مجددًا، سيتضح مدى التناقض الكبير بين الشروط التي يطلبها صندوق النقد من جهة، وأولويّات الطبقة السياسيّة في لبنان من جهة أخرى. مع الإشارة إلى أن شروط الصندوق شملت أيضًا إنجاز التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان، بما يحدد وضعيّته الماليّة والسيولة المتبقية لديه بالعملات الأجنبيّة، للبدء “بتطوير الشفافيّة في هذه المؤسسة الحسّاسة”، على حد قول البيان.
قنبلة إعلامية
أخيرًا، أهم ما في شروط صندوق الصعبة، كان مطالبته بتكليف جهة أجنبيّة “ذات مصداقيّة” بتدقيق الوضعيّة الماليّة لأكبر 14 مصرفاً لبنانياً، بما يسمح بتقييم أصول هذه المصارف وقيمتها الفعليّة، للبناء على هذا التقييم في عمليّات إعادة الهيكلة المصرفيّة. كما طلب الصندوق تعديل قانون السريّة المصرفيّة، وإقرار قانون يسمح بإجراءات استثنائيّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفيّة، بالإضافة إلى إقرار قانوني الكابيتال كونترول والموازنة العامّة للعام 2022.
في خلاصة الأمر، ما يطلبه الصندوق هو تحديدًا ما استماتت الطبقة السياسيّة لتفاديه منذ بداية الانهيار. ورغم أنّ هذه المطالب تندرج في إطار الإصلاحات المطلوبة بشكل بديهي قبل الدخول في أي مسار للتعافي المالي، إلا أن أي توقّع بتطبيق هذه الإجراءات خلال الفترة المقبلة من قبل هذه الطبقة السياسيّة اللبنانيّة بالتحديد لا يتسم بأدنى درجات الواقعيّة، نظرًا لحجم المصالح الكبير التي تمس بها هذه الشروط.
لكل هذه الأسباب، ورغم إيجابيّة “الاتفاق على مستوى الموظفين”، إلا أن الإفراط في التفاؤل بهذا الاتفاق لا يعدو كونه قنبلة إعلاميّة لا أكثر.