لا تتجاوز موازنة وزارة العدل بحسب الموازنات العامة، وآخرها موازنة العام 2024، نسبة 0.3 في المئة. يكفي الإطلاع على هذا الرقم المخصّص لسد نفقات الجسم القضائي بما يحوي من قصور عدل واجهزة رقابية واداريين حتى يتّضح حجم اهتمام السلطة السياسية بكوادر السلطة القضائية ومدى عزمها على تمكين القضاء مادياً وتحييد ضعفاء النفوس عن مكامن الإرتهان المادي.
على الرغم من تخصيص مداخيل رسمية وأخرى غير رسمية للقضاة حالياً فإن مجمل مداخيلهم المُعلن عنها قد لا تسد نفقات معيشية ضرورية لعوائل الجسم القضائي. لكن الفوارق الشاسعة في مستوى المعيشة بين قاض وآخر تُثبت، وإن بغير دليل قاطع، طبيعة العلاقات المشبوهة والإرتباطات الزبائنية بين قضاة ومصرفيين وسياسيين. وهو ما يفسّر بشكل او بآخر كيفية إدارة ملف المصارف ويعلّل أسباب تكديس الدعاوى القضائية في أدراج المحاكم.
مداخيل القضاة
بحسب أرقام وزارة المال تتراوح رواتب القضاة الأساسية بين 5 او 6 ملايين ليرة. ووفقاً للزيادة التي تمت العام الماضي تُضاعف الرواتب 7 مرات قبل أن تخضع لضريبة الدخل كسائر المداخيل. وتُضاف الى الرواتب مخصصات ومنح شهرية من صندوق التعاضد ومصرف لبنان مخصصة بالدولار الفريش إلى جانب منح تعليمية ومساعدات اجتماعية ومرضية بالليرة اللبنانية.
حين وصلت رواتب القضاة في السنوات الأولى للأزمة المالية الى نحو 100 دولار اعتكفوا وقتها عن العمل وتجاوزت مدة اعتكافهم 3 أشهر. لم تحرّك السلطة السياسية آنذاك ساكناً ورمت الكرة في ملعب مصرف لبنان لاستثمارها والتوصل إلى تسوية مع القضاة بشأن رواتبهم، في وقت كانت الأزمة المصرفية في لبنان في أوجها والمودعون يمطرون المحاكم بالدعاوى ويعوّلون على القضاء لاسترداد حقوقهم.
اتت التسوية حينها بتخصيص القضاة من دون سواهم من الجسم القضائي او من عموم القطاع العام بدولار الـ8000 ليرة، فقرر حاكم مصرف لبنان آنذاك (في تموز 2022) صرف رواتبهم بالدولار على اساس 8000 ليرة ما لاقى اعتراضات واسعة على مستوى الموظفين والمساعدين القضائيين والإعلام وقطاعات أخرى لاسيما أن آلية تسوية الرواتب كانت أشبه بالرشوة المباشرة لفئة القضاة فقط.
وعليه تم تعليق الأمر واتجهت المساعي إلى آلية مختلفة لدعم مداخيل القضاة وهي الآلية المستمرة بشكل أو بآخر حتى اليوم. تمثلت الآلية الجديدة بتحويل الأموال في صندوق تعاضد القضاة الى الدولار الفريش على اساس 1500 ليرة ما سهل تأمين منحة شهرية لكل قاض تتجاوز 1000 دولار ويضاف ذلك الى الرواتب الاساسية التي تمت مضاعفتها 7 مرات كسائر القطاع العام.
حالياً تتجاوز المداخيل الرسمية وغير الرسمية للقضاة 2000 دولار كمعدل وسطي، تزيد بحسب درجات القاضي وأقدميته. يُعتبر هذا المدخول بالنسبة الى العديد من القضاة مقبولاً بالمقارنة مع الوضع سابقا ً لكنه في الوقت عينه غير كاف، خصوصاً أن الأزمة المرتبطة بالتغطية الصحية والتعليمية لا زالت مستمرة، بمعنى أن التغطية التعليمية لأولاد القضاة توازي نحو 10 في المئة فقط من ذي قبل اي ما لا يزيد عن 30 مليون ليرة، أما التغطية الصحية فمتدنية جداً.
وإذ يتوقع مصدر معني أن يرفع الجسم القضائي الصوت قريباً للضغط في سبيل تعديل مداخيله وتحسين معيشته، يرى أن السياسيين لا يهتمون في حقيقة الأمر بمعيشة القضاة لا بل يتعمّدون إفقارهم و”تجويعهم” لتمكين السيطرة على قراراتهم من خلال الارتهان لهم؛ وإن لم يكن التجويع متعمّداً فإنه يُعد بالقانون “قصد احتمالي” فالسياسيون مرتاحون للحال التي وصل إليها القضاة ويستثمرونها.
علماً ان كثر من القضاة مرهونين لسياسيين ويأكلون من صحونهم منذ زمن لكن المؤسف أن ما تنتهجه السلطة اليوم بات واضحاً فهي تتعمّد سياسة التجويع للقضاة حتى مسألة تسوية الرواتب الأخيرة لم يكن السياسيون متحمسين لها ولم تكن لهم اي نية لتسوية امور القضاة.
ارتباطات مع مصارف
وليس خافياً على أحد أن السياسيين والمصارف يمارسون نفوذاً كبيراً في ما يتعلق بتعيينات القضاة ونطاق صلاحياتهم وهؤلاء بدورهم يقدّمون الطاعة للسلطة السياسية كلما سنحت لهم الفرصة. ففي خلال سنوات قليلة سجّل السجل القضائي أكبر جريمتين في تاريخ لبنان وربما المنطقة، تتمثل الأولى بجريمة انفجار مرفأ بيروت التي تم التعامل معها بشكل مخزٍ بحيث لم تتم محاسبة أي كان وأكثر من ذلك عمل قضاة على طمس الحقائق وتشويهها. اما جريمة العصر الثانية فتتمثل باختلاس أموال المودعين منذ ما يزيد عن 4 سنوات لم يشهد القضاء اللبناني منذ ذلك الحين أي أحكام منصفة أو ملاحقات بملف المصارف.
حتى في ملف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة الملاحق دولياً والمُدان محلياً بجرائم الإثراء غير المشروع والإختلاس، تعامل القضاء اللبناني بخفة ووقاحة من خلال الإجهار بالمخالفات وعدم تطبيق القانون. ويقول قانونيون متابعون لملف سلامة وقضية الودائع أن عدداً كبيراً من القضاة لاسيما منهم في مراكز رفيعة يتنافسون لإرضاء السياسيين والمصارف.
فللمصارف ومن ورائها من سياسيين شركاء ومساهمين، ارتباطات مباشرة وغير مباشرة مع قضاة يشكّلون مفاصل الجسم القضائي، ولا تقتصر الإرتباطات تلك على تحويل أموالهم إلى الخارج ولا تسوية أوضاعهم المالية خلال السنوات القليلة الماضية ولا الترقيات التي تتم بناء على الإنتماء السياسي وليس الكفاءة، بل تعود أيضاً إلى سنوات ما قبل الأزمة حين كانت المصارف، وبتغطية من مصرف لبنان تُغرق بعض القضاة بقروض مدعومة بملايين الدولارات، منهم من حوّلها الى الخارج ومنهم من اودعها في لبنان واستفاد من فوائدها.
يؤكد قانونيون على أن القضاة الذين تحوم حولهم شبهات بارتباطات مصالح مباشرة مع سياسيين ومصارف ليسوا أكثرية فلا تتجاوز نسبتهم 40 في المئة من مجمل الجسم القضائي، وهي نسبة هائلة كفيلة بإغراق البلد بأمة وأبيه في سراديب الفساد. لكن خطورة الأمر لا تكمن بأعدادهم إنما بتربّعهم في أعلى المناصب وإمساكهم بمفاصل الجسم القضائي.
من هنا تقف الثقة بالقضاء في لبنان عند باب الجهات والأشخاص ذوي الارتباطات السياسية والمصرفية. وبحسب أحد القانونيين رفيعي المستوى “لو كنا في دولة حقيقية كان يجب أن نرى قضاة وراء القضبان في السجون”.