تشهد السوق العالمية تحولا ملحوظا نحو السوق الرقمية حيث باتت التكنولوجيا محركا أساسيا للتعاملات ونماذج التوريد، ما يؤكد أنه يتعين على الكيانات العامة اتخاذُ مسار تحوّل يستدعي غالبا مشاركة مكثفة من شركاء القطاع الخاص لإعادة صياغة تصورات تواكب التطور التكنولوجي وشبكات الجيل الخامس.
تغيرت البيئة والسياق الذي تعمل فيه الحكومات اليوم بشكل كبير. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل متشابكة مثل التطورات في التقنيات الرقمية والناشئة، والتغير في توقعات الزبائن، وكيفية قيام الشركات بأعمالها اليوم، بالإضافة إلى ولادة صناعات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ومن المتوقع أن يكتسب هذا التغيير زخما مع انتقالنا إلى عصر الاتصال المفرط بين البشر وبين الأجهزة؛ إذ أنه بحلول عام 2025، سيمتلك حوالي ثلث سكان العالم وصولا إلى اتصالات الجيل الخامس 5 جي مع عدة أجهزة متصلة لكل شخص. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن ينتقل التواصل الاجتماعي والمحادثات والتعلم، وغيرها من الأمور، إلى مساحة افتراضية عميقة مدعومة بالواقع الممتد عالي الجودة “إكس.أر”، الذي سيعزز الشكل الحالي للتفاعل عبر الإنترنت.
إن هذه العوامل مقترنة مع التحديات التقليدية التي تواجهها الإنتاجية والكفاءة في مؤسسات القطاع العام تدفع الحكومات نحو التحول إلى منظمات رقمية، من خلال اعتماد عمليات وهياكل جديدة ومعايير وأطر جديدة وقنوات وخدمات رقمية.
غير أنه يتعين على الكيانات العامة في خضم عملية تحولها إلى منظمات رقمية اتخاذُ مسار تحوّل يستدعي غالبا مشاركة مكثفة من شركاء القطاع الخاص مثل الاستشاريين والمصمِّمين والباحثين ومزوّدي التكنولوجيا ومقدمي خدمات التدريب. علاوة على ذلك، تتطلب هذه التحولات من الكيانات العامة التفكير والتخطيط والعمل بسرعة وبطريقة رشيقة لجني الفوائد المثلى.
ونقل موقع ‘أي.تي.في ريفيو’ المختص في التكنولوجيا، في تقرير أنه وحتى تنجح هذه التغييرات والتوقعات، فإنها تحتاج إلى نموذج مختلف لإجراء عمليات الشراء والتوريد؛ حيث إن عمليات الشراء التقليدية لا تتناسب مع هذا الواقع الجديد الذي أصبحت فيه القدرة على العمل بطريقة سريعة ورشيقة أمرا ضروريا ولا بدّ منه وليس مجرد ميزة إضافية. إن عدم التوافق بين الواجهة الأمامية الرقمية الجديدة من جهة والعمليات الداعمة القديمة مثل الشراء والتوريد من جهة أخرى خلق الكثير من الضغوط على نموذج التشغيل الحكومي.
التقليدية تفشل المشاريع
يعتبر نموذج تشغيل المشتريات البطيء والبيروقراطي الحالي سببا للكثير من التأخيرات والفشل في المشاريع الحكومية، بما في ذلك المشاريع الرقمية ومشاريع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وعلى سبيل المثال، أشار مقال نشرته ذي إكونوميست تايمز في الهند إلى أن الحكومة كانت تستغرق 2 – 3 سنوات لإعداد تقارير تطوير المشاريع ومنح العقود، هذا يعني أنه بحلول الوقت الذي تم فيه منح العقد، كانت التكنولوجيا قد تغيرت بدرجة كبيرة. كما أشارت المقالة نفسها إلى أنه من بين 31 مشروعا ذا أولوية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومخطط لها في ذلك الوقت، تم إطلاق أقل من نصف هذه المشاريع.
لا بد للحكومات من إعادة تصور نموذج تشغيل المشتريات لحل هذه المشكلة وجعله مناسبا للعصر الرقمي. وقد اتخذت بعض الدول الرائدة رقميا مثل المملكة المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا نهج “السوق الرقمية” لتصميم نموذج مشتريات جديد مصمم بشكل خاص لدعم المشاريع والمبادرات الحكومية الرقمية.
يعمل هذا النموذج على تطوير تصميم مشابه لمنصات التجارة الإلكترونية التي تجمع المشترين والبائعين معا لتسهيل المعاملات المريحة؛ حيث يمكن للشركات المزوِّدة التي تستوفي معايير التسجيل أن تشارك تفاصيل منتجاتها وخدماتها في الكتالوجات مرفقة بأسعارها، بشكل مشابه تماما للبائعين الذين نراهم على موقع أمازون أو مواقع التجارة الإلكترونية الأخرى.
ما يميز هذا النهج عن النماذج التقليدية هو أنه يوحِّد معايير العديد من الأنشطة والعمليات، ما يجعله أسرع وأكثر كفاءة. وعلى سبيل المثال، يعمل السوق الرقمي في نيوزيلندا على توحيد الشروط التجارية من خلال اتفاقية السوق التعاوني. وتبرز فائدة هذه الممارسة بشكل خاص بالنسبة للجهات الحكومية التي لا تمتلك فرق مشتريات وتوريد مخصَّصة.
ويقوم نموذج السوق الرقمي أيضا بتقسيم المتطلبات الرقمية واسعة النطاق، بما في ذلك متطلبات المعلومات والتكنولوجيا، إلى أجزاء أصغر، ما يسمح للشركات الصغيرة بتقديم عروضها للفوز بعقود توريدها. ووفقا للخدمة الرقمية الحكومية في المملكة المتحدة، خلال فترة أربع سنوات منذ تأسيس السوق الرقمية، تم منح عقود تزيد قيمتها عن 4.2 مليار جنيه إسترليني، وكان 90 في المئة من البائعين هم من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
كما يسمح هذا النموذج للجهات الحكومية بنشر متطلبات بسيطة ولا تتطلب عملية شراء وتوريد مفصَّلة. وعلى سبيل المثال، تسمح السوق الرقمية لحكومة كولومبيا البريطانية في كندا لكيانات القطاع العام التابعة لها بالانخراط مباشرة مع المطوِّرين إذا كانت قيمة المشروع لا تتجاوز 70.000 دولار كندي. ويمكن للمطوِّر الاتصال مباشرة بالمدير المسؤول عن المشروع لمناقشة متطلبات البرمجة بالتفصيل، ثم العمل في بيئة تعاونية ومحددة المراحل لتسليم العمل الموكَل إليهم. كما تقدم هذه العقود الصغيرة حوافز إذا تم الانتهاء من المهام قبل الجدول الزمني المتفق عليه.
هناك عامل تمييزي رئيسي آخر يتعلق بما يتم بيعه في السوق الرقمية؛ إذ إنه بالاستفادة من رحلة التحول الرقمي لحكومات مختلفة، تمتلك الأسواق الرقمية القائمة حاليا فئات متخصصة لمساعدة المشترين في العثور بسرعة على ما يحتاجون إليه. وعلى سبيل المثال، أنشأت السوق الرقمية في المملكة المتحدة ثلاث منصات للبائعين، وهي: منصة الخدمات السحابية ومنصة الخدمات الرقمية المتخصصة ومنصة خدمات استضافة مراكز البيانات؛ حيث تتولى وكالة الخدمات التجارية الملكية تدقيق أي بائع يرغب في إدراج نفسه في السوق ضمن هذه الفئات، ثم يُسمح له بتقديم عروضه على أي فرص تُدرجها الكيانات الحكومية.
سهولة وانفتاح
بالمثل، أنشأت أستراليا 15 فئة مختلفة، حيث يمكن للبائعين عرض منتجاتهم وخدماتهم بالإضافة إلى إمكاناتهم ذات الصلة. وتغطي هذه الفئات عدة مجالات مثل التسليم الرشيق والحوكمة، والأمن السيبراني، والتغيير والتحول، والمحتوى والنشر، وغيرها.
ومن شأن عملية الشراء والتوريد المبسَّطة هذه أن تتيح للكيانات الحكومية التركيز على أعمالها الأساسية وتقديم قيمة للأفراد بطريقة أسرع وأكثر رشاقة وانفتاحا. علاوة على ذلك، يمكن للمورِّدين والمشترين التمتع بمستوى عال من الضمان مع تقليل تكلفة ووقت التوريد والشراء.
ونظرا لأن التوريد والمشتريات يمثلان تحديا رئيسيا للقطاع العام، فإن هذا النموذج الجديد يتمتع بإمكانات قد تجعل منه بديلا مفضلا للطرق التقليدية المستخدمة لأداء هذه العمليات. وأعتقد أن هذا النموذج سيتمكن من إدماج أساليب مبتكرة جديدة أثناء نموه وبلوغه مرحلة النضج.
وكمثال على هذه الأساليب، فإن استخدام العقود الديناميكية سيسمح للموردين بتحديث الأسعار وتقديم منتجات وخدمات جديدة للجهات الحكومية دون انتظار انتهاء صلاحية العقود الأصلية.
وأخيرا، يمكن أن تصبح هذه الأسواق الرقمية منصة للبحث عن حلول أكثر من كونها منصة لعرض المواصفات التي ينبغي على مقدمي العروض الوفاء بها. ويمكن للكيانات استخدام هذه المنصة لتقديم بيان لمشكلة والسماح للبائعين المسجلين بتقديم الحلول التي يعدونها الأفضل. لن يؤدي هذا إلى توفير موارد كبيرة للمؤسسات الحكومية فحسب، بل سيشجع أيضا على الابتكار.
وتتسارع يوما بعد يوم وتيرة التغييرات الجذرية التي تحدثها موجة الرقمنة العارمة في أساليب التشغيل والتقدم لشغل الوظائف، حيث حلت تطبيقات تعمل بنقرة واحدة وبرمجيات للبحث عن مرشحين للوظائف ومقاطع فيديو على الهواتف المحمولة، محل الطرق التقليدية في التوظيف.
وابتعدت الأساليب الجديدة بمسافة شاسعة عن الأساليب القديمة، التي كانت تعتمد على السير الذاتية والخطابات التفسيرية المرفقة، وهي تسير باتجاه ما يطلق عليه الخبراء اسم “الاستعانة بالمصادر النشطة”.
وأصبح سوق العمل يميل إلى بحث مسؤولي التوظيف في الشركات عن مرشحين مناسبين لشغل وظائف بعينها. ويتم ذلك في المقام الأول عبر شبكات مثل “لينكد إن”. ولم يعد التوظيف ينتظر حصرا بحث الأشخاص عن الوظائف.
وفي القطاع الطبي أيضا كانت الرقمنة وسيلة فعالة لإنقاذ المرضى وفتحت آفاقا أفضل لحياة دون ألم ومعاناة، حيث يعكف العلماء والباحثون داخل مختبراتهم على تطوير المزيد من العلاجات الجديدة المرتبطة بالتكنولوجيا.
وظهرت نتيجة هذا الاعتكاف المتواصل الكثير من الابتكارات التقنية الحديثة في السنوات الأخيرة برهنت على قيمة التقدم التكنولوجي في المجال العلمي، ولعل أبرزها في يوليو الماضي تمكن فريق طبي إيطالي من ابتكار شبكية اصطناعية بدقة عالية تحفز الخلايا العصبية على استيعاب الضوء وبالتالي عودة البصر، عبر تعزيزها بمكون سائل يسهّل تعليق الجسيمات النانوية البوليمرية الضوئية، في وقت تبحث فيه الإنسانية عن نقطة ضوء تمنحها أملا وهي لا تزال تصارع فايروس كورونا عالميا.
وزاد الوباء في إقناع الحكومات بالحاجة الملحة إلى الاعتماد على التكنولوجيا لتسيير القطاعات الحيوية في ظل وجود الوباء الذي سيتواصل إلى أشهر، ما يعني أن التكنولوجيا ستعيد تشكيل مستقبل الاقتصاد والعمل بحيث يكون التطوير والتحديث التكنولوجي علامة فارقة بعيدا عن الثروات الطبيعية التقليدية التي سادت طيلة عقود.
وتسببت جائحة كوفيد – 19 في عرقلة الاقتصاد العالمي حتى وصل أثرها إلى حياتنا اليومية، ومن المتوقع أن تستمر هذه الجائحة في ذلك لمزيد من الوقت. كما أثّر تراجع النشاط الاقتصادي على الشركات العاملة في جميع القطاعات.
وأصبحت العديد من المؤسسات تواجه تحديات حقيقية في تحقيق الإيرادات أو تنويعها وفي خفض التكاليف. أو حتى القدرة على الصمود بشكل عام في ظل هذه الظروف الاستثنائية، ما أدى كذلك إلى ارتفاع حاد في مستويات البطالة.
وانخفض عدد ساعات العمل على مستوى العالم إحصائيا بنسبة 4.5 في المئة خلال الربع الأول من عام 2020، ما يعني تلاشي نحو 130 مليون وظيفة بدوام كامل.
وجعل التباطؤ الاقتصادي في العرض والطلب نحو 52 في المئة من المدراء الماليين في منطقة الشرق الأوسط و59 في المئة من المدراء الماليين في دولة الإمارات العربية المتحدة يتوقعون حدوث تغييرات جذرية في كيفية إدارة عملية التوظيف والموارد البشرية بمؤسساتهم التي قد تشتمل على الإيقاف المؤقت عن العمل أو حتى تسريح الموظفين بشكل نهائي نتيجة التباطؤ في قطاع الأعمال في المنطقة.
وإلى جانب نقص الإنتاجية وبطء نسق الأعمال فقد أظهرت الجائحة أزمة تتمثل في فجوات حادة في المهارات التشغيلية بين الأفراد في بيئة العمل ما يدعو إلى تسريع تطوير مهارات الموظفين وصقلها.
يمكن القول إن جائحة كورونا اختزلت عشر سنوات على الأقل في عمر التحول الرقمي، حيث أن ما نلحظه من مسابقة الدول للزمن لوضع أسس هذا الانتقال رهيبة جاءت في دقائق ضائعة وأرغمت الجميع على تكريسها على الأقل لتسيير بعض الأعمال والمعاملات اليومية داخل الإدارات والمؤسسات.