على الرغم من تخفيض الدعم على المحروقات وارتفاع سعر صفيحتي البنزين والمازوت بنسبة 65 و69 في المئة على التوالي، فان المادتين ما زالتا مفقودتين، وتباعان في السوق السوداء بأسعار خيالية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأدوية التي خفض الدعم عليها لتباع على اساس 13650 ليرة للدولار، فهي مفقودة عن رفوف الصيدليات، وموجودة عند “تجار الدواء” بسعر أعلى من سعر السوق الموازية. حتى أن القمح والطحين والخبز لم تُستثنَ من التهريب، ويجري بيعها بأسعار مرتفعة جداً. والسبب لاستمرار توسع السوق السوداء بشكل فظيع، يعود بحسب علم الإقتصاد إلى أمرين: الأول يرتبط بالعلاقة العكسية مع الحرية الإقتصادية، حيث يدفع تقلص الحرية الإقتصادية إلى توسع السوق السوداء، والعكس صحيح. والثاني عدم قدرة الانتاج المحلي والإستيراد الخارجي على تغطية الطلب الداخلي. فيزداد الطلب بشكل كبير عن العرض ويصبح من مصلحة العارضين بيع البضائع خِفية بأسعار عالية جداً، لكل من يكون مستعداً لدفع السعر الأعلى.
الحالتان تنطبقان على الوضع في لبنان. فاستمرار العمل بسعر الصرف الرسمي الوهمي المحدد بـ 1500 ليرة بشكل عام، وعدم رفع الدعم بشكل خاص، يعنيان أن الإقتصاد مقيّد ولا يتمتع بالحرية. فيما يؤدي استمرار الدعم من الجهة الأخرى و”التقطير” في فتح الاعتمادات بالنسبة للمحروقات والدواء إلى ارتفاع الطلب عن العرض بأضعاف مضاعفة. خصوصاً في ظل غياب النقل العام والاعتماد الكبير على النقل الخاص، وتزايد الحاجة بشكل هستيري على المازوت لتأمين الكهرباء من المولدات الخاصة. هذه الحالة الشاذة “سوف تنتهي مع رفع الدعم”، يجزم الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. فـ”السوق السوداء تتغذى من وجود سلع مدعومة. ومع تحرير الأسعار وفتح الإستيراد والبيع بسعر الكلفة، ينتفي مبرر التخزين والبيع بأسعار غير حقيقية من جهة، ويتراجع من الجهة الأخرى الإستهلاك والطلب نتيجة ارتفاع الأسعار. وفي كلتا الحالتين تنعدم مبررات وجود السوق السوداء، فتختفي وتعود الأمور إلى طبيعتها”.
يتدرج المستفيدون من السوق السوداء من الشركات المستوردة إلى التجار والموزعين وأصحاب المستودعات وأماكن التخزين… وصولاً إلى بعض سائقي سيارات النقل العمومية، و”قبضاي” الحي، و”أزعر” الشارع الذين “امتهنوا” الدعم. عملية تشبه من حيث الشكل، لا المضمون، شعار “من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته” للفيلسوف كارل ماركس. فبيع صفيحتي بنزين بالنسبة للسائق العمومي بمبلغ مليون و200 ألف ليرة مقابل انتظار 3 إلى 4 ساعات على المحطة، أربح بكثير من حرق الوقود واستهلاك السيارة من أجل 300 أو 400 ألف ليرة في يوم عمل واحد أو حتى أقل. فقد بلغ متوسط كلفة الوقوف في طوابير البنزين منذ بدء الازمة حوالى 1,100 مليار ليرة، بحسب دراسة للدولية للمعلومات. تضاف إلى الكلفة المادية المباشرة “أكلاف غير محتسبة مثل: كلفة الأمراض والأزمات الصحية الناجمة من الانتظار والتوتر، والتلوث وزحمة السير لساعات التي سببتها الطوابير، والضحايا من قتلى وجرحى الذين سقطوا نتيجة الإشكالات أو الحوادث أمام محطات الوقود أو فقدان الأدوية.
الخسائر التي لحقت بالمواطنين نتيجة شراء صفائح البنزين أو المازوت بأسعار السوق السوداء تبدو “نزهة”، أمام خسارة القطاعات الإنتاجية والصناعية من معامل ومصانع ومطاعم ومولدات الكهرباء العمومية. حيث وصل سعر الطن الواحد من المازوت إلى 20 مليون ليرة أو 1000 دولار، فيما سعره في الأسواق العالمية يتراوح بين 540 و580 دولاراً للطن الواحد.
ليست المشاكل والأزمات التي تصيب البلد هي ما يتأسف عليه الصناعيون إنما غياب الرؤية وانعدام الحلول رغم توفرها. فـ”هناك مشروع تقدمنا به إلى وزارة الصناعة لتمويل تركيب أنظمة على الطاقة الشمسية للمعامل عبر قروض ميسرة”، بحسب أبي نصر. وهناك إمكانية لاستجرار الكهرباء عبر “الربط السداسي” والغاز عبر “الربط الخماسي” وانتاج بين 16 و18 ساعة كهرباء يومياً، بامكان الدولة بيعها بسعرها الحقيقي الذي يبقى أقل بـ 3 مرات من كلفة المولدات… فلماذا لا نشهد تطبيق أي حل من الحلول”.
الحسنة الوحيدة لاستيراد الصناعيين المازوت مباشرة تمثلت في انخفاض سعر طن المازوت في السوق السوداء إلى 530 دولاراً. ولكن في المقابل تبقى سوقاً سوداء تباع فيها المادة بأضعاف السعر المدعوم ويحرم المواطنين من هذه المادة الحيوية، خصوصاً على أبواب فصل الشتاء ويلحق بالمودعين والاقتصاد بشكل عام خسائر فادحة.