عند كل موسم سياحي أو عيد في لبنان، يُكرِّر أرباب المؤسسات السياحية والخدماتية، واقع انحسار القطاع السياحي منذ ما قبل انفجار الأزمة الاقتصادية في العام 2019. ويتناقلون من موسم لآخر، أرقاماً تؤشِّر إلى تقدّم أو تراجع تحت سقف الانهيار العام. وفي مراجعة لواقع القطاع على مدى 10 سنوات، أي بين العامين 2014 و2024، لا يُخفى الانحدار الكبير لأرقام القطاع ولتوقّعات أربابه.
ويمكن تقسيم الفترة العشرية إلى مرحلتين، الأولى من العام 2014 حتى 2019، والثانية تمتدّ حتى العام 2024 وتحمل تصوّرات غير مشجّعة.
من الذروة إلى الانكسار
لم تستطع التحسّنات الطفيفة التي شهدها القطاع السياحي في العام 2014، إعادة المشهد الإيجابي للبنان إلى سابق عهده، وسيّما إلى العام 2010 الذي اعتُبِرَ عام الذروة بالنسبة للقطاع، إذ وصلت مساهمته في الناتج المحلّي الإجمالي إلى نحو 30 بالمئة. وكان التواجد الخليجي والأوروبي بأوجّه في لبنان، قبل بدء السقوط في العام 2011 في أعقاب القرار الخليجي بعدم توجّه السياح الخليجيين إلى لبنان، إثر المواقف السياسية التي جاءت على خلفية الانقسام حول الحرب السورية.
بقي الوضع على ما هو عليه حتى العام 2014 حين دخل لبنان موجة التفجيرات الانتحارية التي نفذتها الجماعات التكفيرية، فكانت رصاصة الرحمة للقطاع السياحي المأزوم. مع أن ذلك العام كان يلوِّح ببعض التفاؤل مقارنة بما شهده القطاع منذ العام 2011. لكن التفاؤل لم يتحقَّق.
دخول لبنان في مرحلة الخضّات الأمنية المرتبطة بتصاعد هجمات الجماعات التكفيرية، وغياب المعالجات السياسية المرافقة لهذا الملف. أبقى لبنان خارج الخريطة السياحية، ما خلا بعض التحسّنات التي رافقت استمرار قدوم المغتربين في مواسم الأعياد والفرص السنوية. وهذا أمر طبيعي بالنسبة للخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، الذي يربط في حديث لـ”المدن”، نجاح القطاع السياحي بأمرين أساسيين “هما الاستقرار الأمني والسياسي من ناحية ومتغيِّرات الأكلاف من ناحية ثانية”.
بين العامين 2014 و2019 لم تكن الأحوال الأمنية والسياسية على ما يرام، رغم فترات الهدوء المتقطّعة. فالانقسام السياسي المرافق للحرب في سوريا ومشاركة حزب الله بها وانسحاب تداعياتها على الداخل اللبناني، لم يُحيِّد القطاع السياسي. وفي القسم الثاني من المرحلة العشرية، استمرَّ الوضع السياسي المعقَّد، وترافق مع انهيار اقتصادي عزَّزَت موجة الكورونا من قوّته التدميرية في لبنان.
مع انحسار موجة كورونا، كان باستطاعة القطاع السياحي أن يلتقط أنفاسه أسوة بالانفراجات التي شهدها العالم. لكن “تغيُّر أكلاف القطاع مع انهيار سعر صرف الليرة، واستمرار الأزمة السياسية، حالا دون ذلك”. ويشير يشوعي إلى أن “السلطتين التشريعية والتنفيذية ومعهما القضاء وإدارات الدولة، لم تتّخذ قرارات تسهم في معالجة الأزمة. بل إن الموازنات المتلاحقة فرضت المزيد من الرسوم والضرائب التي تُعتَبَر أكلافاً ثابتة على المؤسسات، بغض النظر عن حجم أعمالها وعدد زبائنها، ومنها على سبيل المثال فواتير الكهرباء وأجور الموظفين والإيجارات”.
المؤشرات الدولية للعام 2024
اجتياز لبنان مرحلة التفجيرات الإرهابية وفيروس كورونا، لم يكفهِ شرَّ تداعيات انفجار المنطقة عسكرياً. فاختتام موسم الصيف للعام 2023 ترافق معه اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وامتدادها إلى لبنان، وهذا أكَّدَ مرة أخرى أن لبنان “فاقد للاستقرار وليس فيه سلطة تضع سياسات لإدارة البلاد في الأزمات. وهذا ينعكس على الاقتصاد ككل وليس فقط على السياحة”، يقول يشوعي الذي يلفت النظر إلى أنه “حتى مع الحروب، يبقى الحدّ الأدنى من الاستقرار إذا كانت السلطات قد جهَّزَت البلاد لأي طارىء”. أمّا وأن البلاد غير مجهَّزة، يبقى الاعتماد على المغتربين. وفي هذا المجال، لا يتّفق يشوعي مع بعض أركان القطاع السياحي الذين يقولون بأن المغترب لا يُنفق كثيراً، “بل يأتي إلى لبنان ليخرج ويُنفِق، لا للجلوس في المنزل. والسياحة في الأصل تتعلّق بالخروج، ثم يرافقها مكمِّلات الخروج، من ارتياد المطاعم والأماكن السياحية وغير ذلك، وفي هذه الحالة نبدأ الحديث عن الإنفاق. لكن في الأصل، الخروج هو مبدأ السياحة، والمغترب ياتي إلى لبنان ويتجوَّل فيه”.
معضلة القطاع في الوقت الراهن، بنظر يشوعي هي “تحوُّل معظم الطبقة الوسطى إلى طبقة فقيرة. وهذه الطبقة هي التي تُنفِق. أما وقد بقي منها بين 10 إلى 15 بالمئة، فهؤلاء هم الذين يتحرّكون في المناطق”. ويلفت النظر إلى “سياحة المتقاعدين الأثرياء. وهي سياحة رائجة، لكن نسبتها قليلة نظراً لقلّة عدد هؤلاء. ولا يقدّمون دفعاً كبيراً للسياحة اللبنانية”.
توصيف يشوعي لأحوال القطاع يعني أن لا حصّة للبنان داخل التفاؤل الذي سجّلته منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، حول تعافي القطاع السياحي العالمي في العام 2024 من تداعيات كورونا بشكل كامل. فالوكالة وثّقت خروج 1.3 مليار شخص خلال العام 2023، وهؤلاء يمثّلون زيادة بنسبة 44 بالمئة مقارنة مع حركة الخارجين للسياحة في العام 2022 ونسبة 88 بالمئة مقارنة مع العام 2019.
وعلى مستوى الشرق الأوسط، تجاوز عدد السياح الوافدين مستويات عام 2019 بنسبة 22 بالمئة. ولبنان في هذه الفترة، كان ينزلق في دوامة الانهيار. والمؤسف أن أحوال البلاد تتطابق مع مؤشرات المخاوف التي تحملها منظمة السياحة للعام 2024. فالمنظمة ترى بأن استمرار التضخم وارتفاع أسعار الفائدة وتقلب أسعار النفط وما ينتج عن ذلك من اضطرابات في التجارة يمكن أن يستمر في التأثير على تكاليف النقل والإقامة في عام 2024. وهي مؤشرات يحتضنها لبنان بقوة في ظل ارتفاع الأسعار والرسوم، الأمر الذي لن يحمل بودر إيجابية للقطاع السياحي.
وهذا الأمر يوثّقه أرباب القطاع، ففي حين يتفاءل رئيس نقابة أصحاب مكاتب السفر والسياحة، جان عبود، بأن حركة الحجوزات خلال فترة الأعياد قد تشهد ارتفاعاً تدريجياً منذ الآن حتى عيد الفطر، إلا أنها سجّلت تراجعاً بنسبة تراوحت بين 10 و15 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023. كما أن ما تنتظره المؤسسات السياحية من المغتربين القادمين، لن ينعكس إيجاباً على القطاع الفندقي، وفق ما يراه رئيس نقابة أصحاب الفنادق بيار الأشقر “وهذا شيء مؤكد تثبته نسبة الحجوزات”.
استمرار الأزمة الاقتصادية وغرق الشريحة الأكبر من الطبقى الوسطى في مستنقع الفقر، واستمرار الحرب والانقسام السياسي، سيُبقي الصورة السياحية اللبنانية سوداء، حتى وإن تلطّخت ببعض البقع البيضاء في الأعياد.