في أحد المتاجر الغذائية الكبيرة والمعروفة في طرابلس، تقف مجموعة من الزبائن عند براد الأجبان والألبان، الذي بدا فارغًا على غير عادته من أصناف عديدة. ويطلب أحدهم من الموظف نصف كيلو لبنة “رهبان”، في إشارة إلى علامتها التجارية من مركز صنعها في زغرتا. لكن الموظف يرد: “انسى الرهبان، بطّل في منها”.
أربعة أصناف كانت مرغوبة
ثم يستفسر الزبون المصدوم مع آخرين عن السبب، خصوصًا أنها من أحب أنواع اللبنة على قلبهم، كما قالوا، فيشرح لهم الموظف أنها من بين الأصناف التي تبين فسادها وأمرت وزارة الاقتصاد بسحبها من الأسواق.
قبل أيام، ومع إعلان وزارة الاقتصاد قرارًا قضى بتعليق التداول وسحب وتلف 9 أصناف من الألبان والأجبان، لعدم مطابقتها المواصفات القياسية اللبنانية، كان لافتًا أن من بينها أربعة أصناف تتم صناعتها في الشمال، وهي:
اللبنة التي تحمل العلامة التجارية gran pa من إنتاج مصنع جوزيان بطرس الدرجاني في كفردلاقوس زغرتا.
اللبنة التي تحمل العلامة التجارية عجاج من إنتاج مصنع الشمال للألبان والأجبان في مرياطة اللبنة التي تحمل العلامة التجارية البارودي من إنتاج معمل ألبان وأجبان البارودي الكائن في الميناء
اللبنة التي تحمل العلامة التجارية الرهبان من إنتاج مصنع الرهبان للألبان والأجبان الكائن في كفردلاقوس زغرتا.
نظرية المؤامرة
وهذه مؤسسات معروفة شمالًا، ولها باع طويل بمجال صناعة الألبان والأجبان منذ سنوات طويلة، وبعض الناس يحرصون على شرائها دون سواها نتيجة ثقتهم بها.
ميدانيًا، مرّ هذا الحدث الذي يعكس وجهًا من حجم الفساد الغذائي في لبنان، بصمت مريب في الشمال، خصوصًا أن معظم المتاجر الغذائية، ومن بينها مؤسسة كبيرة ومعروفة، تعتمد على هذه الأصناف في برادتها. ويتردد إليها يوميًا عشرات آلاف السكان لشراء حاجاتهم، ويشتريها السكان من مختلف المستويات الاقتصادية. واللافت أن بعض المتاجر، وفق معطيات استقصتها “المدن” خلال جولتها فيها، أصبحت تبرر لزبائنها اختفاء هذه الأصناف بأنها “مؤامرة” وحرب بين التجار ومنتجي الألبان والأجبان، وأن تحليل الوزارة والنتائج التي أصدرتها غير دقيقة! حتى أن البعض وعد زبائنه أنه سيسعى لاحقًا لإعادة طرح هذه الأصناف في براداتهم. وهنا، تطرأ إشكالية أخرى يتم التغاضي عنها، وتتمحور حول طبيعة التواطؤ بين أصحاب بعض السوبرماركات، وتحديدًا الكبيرة، وأصحاب العلامات التجارية لهذه الأصناف.
ويتساءل كثيرون إن كان أصحاب المتاجر المعروفة لا يدققون مسبقًا بجودة المواد الغذائية التي يعرضونها ويروجون لها، ويشجعون الزبائن على استهلاكها بأسعار مغرية. مع الإشارة أن الأرباح الطائلة التي يتم تحقيقها ببيع كميات كبيرة من هذه الأصناف، تعود بالفائدة على صانعيها من العلامات التجارية المذكورة أعلاه وغيرها، وعلى المتاجر والسوبرماركت التي تقوم ببيعها.
خوف في الشمال
وكانت “المدن” قد استطلعت في الأسواق آراء مواطنين في طرابلس ومحيطها حول رأيهم بالقضية، وكان لافتًا أن الكثير منهم لم يسمعوا بسحبها من الأسواق. تتساءل أم أحمد: “هل وقفت على هذه الأنواع؟ فنحن نشتري الكثير من الألبان والأجبان من السوق وبلا علامة تجارة وما يجذبنا إليها انخفاض سعرها فحسب”.
وتبين، حسب تحليل أصناف الألبان والأجبان التي تم سحبها من السوق، أنها تضم موادًا من الجفصين والكلس والنشاء والزيوت النباتية المضرة، في ظل حالة تفلت مخيفة بين فئة واسعة من التجار، لجني أرباح طائلة على حساب صحة الناس، التي تتكبد تكاليف باهظة توفيرًا لقوتها اليومي.
تفلّت غذائي
ورصدت “المدن” أيضًا في الشمال، شكاوى كثيرة حول سلامة اللحوم والدواجن، وتباع كميات كبيرة فاسدة على أساس أنها طازج. كذلك بعض المطاعم ومحال إعداد الوجبات السريعة، يشكو بعض زبائنها من مشاكل صحية في المعدة والأمعاء بعد التردد إليها.
وسبق أن شهد شمال لبنان في الأشهر الماضية عمليات مداهمة أمنية لمصادرة لحوم فاسدة من الأسواق.
وفيما يشكو لبنان عمومًا من تداعيات عدم تطبيق قانون السلامة الغذائية، وفي ظل غياب العقوبات الرادعة للتجار الفاسدين الذين يستثمرون بصحة الناس، يبدو أن المناطق الطرفية، تشهد تفلتًا غذائيًا واسعًا. ويرجح كثيرون أن تكون كل الأصناف المضبوطة بعد التثبت من فسادها، ليست إلا نسبة ضئيلة من أصناف فاسدة كثيرة تحضر على سفرة اللبنانيين من دون معرفتهم بذلك.
من جهة، خسر المواطنون “ترف” شراء أشهر الأصناف الغذائية باعتبارها مضمونة على مستوى السلامة الغذائية، لأنها تباع بأثمان باهظة، ومن جهة أخرى، أفرزت الأزمة طفرة من المستغلين الذين لا يتوانون أيضًا عن بيع مواد غذائية فاسدة بأسعار مرتفعة ومتوسطة.