يشهد القطاع النقدي اللبناني تحوّلات سريعة. المصارف التجارية مع المصرف “الأم” تخوض معركة وقت، بانتظار ما يمكن أن تحمله الأيام القادمة من تطوّرات سياسية إيجابية تُريح القطاع، وتُخفّف عن كاهله عبء استثماره مليارات الدولارات، بشكل مباشر أو عبر واسطة مصرف لبنان، في ديون الدولة المتعثرة. وإلى حينه، تتعقّد الإجراءات المصرفية، وتتّخذ بشكل يومي ومتصاعد منحى أكثر قساوة، لا يُميّز بين صغار المودعين والمتعاملين وبين أصحاب الملايين.
من بعد تخفيض سقف السحوبات النقدية بالعملتين الأجنبية والمحلية، ووقف فتح الإعتمادات المصرفية، ومنع التحويلات الخارجية، ورفض فتح حسابات جديدة من أجل وضع شيكات فيها، وعدم قبول وضع الشيكات بالعملات الأجنبية بأرصدة الحسابات الجارية… ها هي بعض المصارف تبدأ اليوم بشكل علني بمنع السحب بالدولار نهائياً، وفي حال الإصرار على السحب يقدم للعميل شيك مصرفي مسحوب على مصرف لبنان و”ليدبّر رأسه المواطن”.
هذه التدابير أوقعت المواطنين في حيرة من أمرهم، فهي لا تقتصر على شعورهم بالمهانة لعدم تمكنهم من أخذ حقهم الذي ائتمنوا المصرف عليه، إنما في معرفتهم ويقينهم أنهم دخلوا متاهة، لا سبيل للخروج منها.
“نشعر كأننا فئران تجارب، محجوزين في قفص نقفز من أرجوحة متحركة إلى دولاب يدور، من دون أن نتمكن من الخروج”، تقول إحدى السيدات في معرض حديثها عما تواجهه من صعوبات في التعامل مع مصرفها.
الحالات التي تصف المعاناة اليومية للمواطنين مع المصارف لا تنتهي. وهي تظهر استنسابية فاضحة بين المصارف وبين فرع وآخر في المصرف نفسه، تشكل ضربة كبيرة للنظام المصرفي الذي كان يفترض به أن يكون الأكثر حوكمة وتنظيماً ومراعاة للأصول العالمية في الإدارة والتعامل.
القطاعات تعاني
مشاكل المواطنين على أهميتها، تقابلها مشاكل أكبر وأعقد عند القطاعات الانتاجية والخدماتية. فهؤلاء الذين استثمروا بملايين الدولارت، يشهدون بأمّ العين على انهيار كل ما بنوه خلال السنوات الماضية.
قطاع بيع السيارات المستعملة واحد من القطاعات الأكثر تضرراً من وقف الإعتمادات المصرفية ومنع التحويلات الخارجية وحصر التعامل بالشيكات. وبحسب أحد أصحاب المعارض فإن حركة البيع خلال الفصل الرابع من العام الحالي لامست الصفر بالنسبة لأغلبية التجار”. والسبب برأيه “لا يتعلق فقط بالأزمة الإقتصادية، فهناك الكثير من الميسورين الذين يهمهم تبديل سياراتهم، إنما بوقف التعامل النقدي ولعدم وجود مصلحة لأصحاب المعارض في التعامل بالشيكات”.
نقيب مستوردي السيارات المستعملة ايلي قزي يقول إن “هناك مصلحة لبعض التجار المقترضين من المصرف في التعامل بالشيكات، وذلك لملء رصيدهم وتسديد مدفوعاتهم. أما غير المقترضين فيرفضون رفضاً قاطعاً قبول الشيكات بدلاً عن تسديد ثمن السيارات، فالقيمة المادية للسيارة تبقى أكبر من شيك سيحتجز”.
بالإضافة إلى ارتفاع الفوائد المدينة وعدم اتخاذ أي خطوة جدية لتخفيضها، أسوة بالفوائد الدائنة، فإن قطاع تجارة السيارات المستعملة يواجه مشكلة أكثر خطورة، تتمثّل في وجود حوالى 4 آلاف سيارة عالقة في مرفأ بيروت، بعدما أوقفت المصارف التسهيلات المصرفية.
الإنهيار المؤجّل
حَصرُ التعامل بالشيكات يهدف بشكل أساسي إلى الحد من التعامل النقدي ومنع المودعين من سحب أرصدتهم، أو ما يتيسّر لهم منها، ووضعها في المنازل. وبحسب الخبير الإقتصادي رازي الحاج فإن ” تورّط المصارف في استثمار مبالغ مالية كبيرة بالعملة الأجنبية في تمويل الدولة وسندات الخزينة هو ما أوصلنا إلى هذه المرحلة”. هذه العملية لا تملك “حسنات ظاهرة، إلا إطالة أمد الإنهيار الكامل والمحافظة قدر المستطاع على تيسير وتسهيل العمليات التجارية”.
من جهة أخرى يسمح حصر التعامل بالشيكات بإبقاء اللعبة ممسوكة من النظام المصرفي، وتأمين بعض الإيرادات، ولو كانت محدودة، من خلال العمولات، التي يأخذها المصرف على وضع أو سحب الشيكات.
بحسب الحاج فإن هذه العملية يجب ان تترافق مع أمرين أساسيين:
– إتاحة مصرف لبنان المجال أمام المستوردين والتجار والصناعيين، استعمال هذه الأموال لتأمين مستورداتهم من السلع والمواد الأولية الضرورية لاستمرار الحركة الإقتصادية.
– محافظة المصارف على التسهيلات التي كانت تعطيها في السابق من حسابات “الأوفر درافت” و”كاش كو” لأن إعادة العمل بهما تريح التاجر وتضمن إعادة إدخاله للأموال.
إنما الذي يحدث اليوم ان بعض الحسابات المضمونة والتي تملك تاريخاً مشرفاً من التعامل مع المصارف والتي كانت تستفيد من أوفر درافت لتسهيل أمور الاستيراد تم ايقافها.
حصر التعامل في الشيكات قد يحلّ على الصعيد الداخلي، إنما مع استمرار رفض المصارف تحويل الاموال الى الخارج لاستيراد الحاجات الضرورية، تكون المصارف قد أصابت الامن الغذائي والدوائي للمواطن بمقتل.
خالد أبو شقرا – نداء الوطن