لم يتغيّر النقاش الاقتصادي عمّا قبل الأزمة. فالنخب الاقتصادية تواصل التنظير في سياق «الانتقال من الريع إلى الإنتاج» من دون أن تطرح مسارات تطبيقية. ولم يشذّ المؤتمر الذي أقامته أمس جمعية الصناعيين مع المجلس الاقتصادي الاجتماعي ووزارة الصناعة بعنوان «الصناعة اللبنانية: تحدّيات وآفاق»، بل كان أشبه بمسرحيّة، إذ ظهر أن هناك توافقاً على شكل القطاع الصناعي ودوره ووظيفته وعلى النظرة الفوقية لأصحاب العمل على العمال، بمعزل عن أيّ تطوير متّصل بالرؤية الاقتصادية والعلاقات التجارية الخارجية. وقد حصل هذا الأمر في ظلّ حضور رئيس الاتحاد العمّالي العام بشارة الأسمر الذي يفترض، نظرياً، أن يمثّل صوت العمّال وضمانة تحصيل حقوقهم في أيّ عملية تهدف إلى إعادة تشكيل القطاع الصناعي. فالأجور تدهورت بشكل مريع، بينما قال الأسمر في كلمته إن «النموّ في القطاع الصناعي انعكس إيجاباً على العمال».
لا أحد يعلم شيئاً عن هذا النموّ ولا عن انعكاسه على العمال. رغم ذلك، الأسمر يصف أصحاب المصانع بـ«شركائه في الإنتاج». وتأكيداً على كلامه، قال الأمين العام للعلاقات الخارجية في جمعية الصناعيين منير البساط، في المحور الثاني من المؤتمر: «مؤسّستنا تتّجه نحو الإفلاس لأنه يستحيل أن تتحمّل أعباء قانون نهاية الخدمة ومضاعفات الأجر الذي وصل حدّه الأدنى إلى 18 مليون ليرة». تخلّلت اللقاء جلسة افتتاحية تحدث فيها: رئيس جمعية الصناعيين سليم الزعني، رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي شارل عربيد، الوزير السابق محمد شقير، النائب فريد البستاني ووزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال جورج بوشيكيان. كانت معظم المداخلات شعبوية، كأنه عرض مسرحي لخطابات غير واقعية. وبعدها عرضت 4 دراسات تحاكي «الواقع الصناعي وتحدياته». الأولى بعنوان «الاقتصاد غير الشرعي وتأثيره على الصناعة الوطنية»، وفيها استفاض نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش في شرح أضرار الاقتصاد الموازي من دون أن يقدّم أيّ اقتراح للحلّ، بل هو بنفسه وصف الحلول التي يطرحها بـ«الأحلام»، لكنه في المقابل استغرب وجود «براندات» تقليد من الصين، التي «يغشّون بها المواطن».
أما الثانية فكان عنوانها «السياسات الاجتماعية والمعاش التقاعدي»، وفيها حذّر البساط من أن رفع الحدّ الأدنى للأجور وصدور قانون التقاعد والحماية الاجتماعية، يمكن أن يؤدّيا إلى إفلاس المؤسّسات، إذ إن الصناعيين تحمّلوا عن الدولة كلفة النقل للعمال، والبدلات الاجتماعية الأخرى، علماً أن هذه البدلات يجب أن تكون في أساس الراتب، والدولة كانت قد خدمتهم في فصلها من الراتب.
وفي الدراسة الأخيرة حول السياسة الضريبية والجمارك، طالب الصناعيون وأصحاب الرساميل بخفض معدّل الضريبة على أرباح الشركات إلى 10% بحجّة أن نسبة 17% مرتفعة. وقد توصّل هؤلاء إلى رقم 10% من خلال المقارنة مع قبرص التي تبلغ فيها الضريبة على الشركات 12.5%. وقيل فيها أيضاً إن لبنان لا يوفّر البيئة التي توفّرها قبرص للشركات. كما طُرح أن تُلغى الضريبة على الأجور، فيما تُرفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 15%. وقيل إن الضريبة على القيمة المضافة ليست ضريبة تنازلية كما «يقول البعض»، بل هي ضريبة تصيب الميسورين أكثر من الأسر ذات الدخل المحدود.
إذاً، كل النقاش يتعلق بموضوع كلفة الأجور في المؤسسات الصناعية، بينما لم يتحدّث أحد عن كلفة الموارد الأولية ولا عن كلفة الطاقة، ولا أيّ إشارة إلى المنافسة التي تتعرض لها البضائع المصنعة محلياً من السلع المستوردة، ولا التنافس في الأسواق الخارجية. عملياً، لم تناقش أيّ خطّة للسياسة الصناعية، بل «نقٌّ» مرتبط بكلفة «شركاء الإنتاج» أي العمال. أيضاً، لم يجرِ أيّ نقاش في البنية الاقتصادية من زاوية رفع الصادرات عبر تعزيز الاستثمار بالصناعات التي يمكن أن تنافس دولياً حتى لو بشكل متأخر. ولم تناقش سياسات حماية الإنتاج المحلي من خلال إجراءات قانونية تفرضها الدولة لحماية الصناعات المحلية. ولم يتمّ التطرّق إلى استراتيجية التعامل مع سلاسل التوريد أو سلاسل القيم لكي يصبح القطاع مربحاً.