«كي لا تقع الكارثة… خارطة لانقاذ قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان»، تحت هذا العنوان اكدت دراسة نشرتها منصة البديل للباحثة ليونورا مونسون أن إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة ممكن وضروري، ويبدأ بمؤسسات الكهرباء والاتصالات. وحذرت من إنشاء صندوق سيادي للشركات المملوكة للدولة. وقالت الدراسة في توصياتها ما يلي:
رفض إنشاء صندوق سيادي للشركات المملوكة للدولة
يجب التعامل مع ضرورة إصلاح الشركات المملوكة للدولة في لبنان من منظور تعزيز الصالح العام بدلاً من إثراء الطبقة الغنية. ففي عام 2020، طرحت جمعية مصارف لبنان (ABL) خطة إنقاذ بديلة اقترحت تحويل أصول الدولة– بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة– إلى “صندوق سداد الديون الحكومية” الذي يشرف عليه مصرف لبنان. وكان الهدف هو استخدام الإيرادات المتأتية من هذه الأصول لتسوية ديون الدولة لمصرف لبنان والمصارف التجارية. لكن سرعانَ ما تطوّر هذا النموذج المستحدث والذي أطلق عليه ما يسمى بـ“الصندوق السيادي” إلى “نموذج مقترح هو المؤسسة اللبنانية للاستثمار” وتمّ ذلك في العام 2021. تمّ تصميم هذه الشركة المساهمة– التي يديرها مصرف لبنان– لإدارة أصول الدولة واستخدام إيراداتها لتسوية الديون، مع الحفاظ على ملكية الدولة لهذه الأصول.
أمّا من الناحية المؤسساتية فهناك خطر كبير من أن يقوم هذا الهيكل بتركيز السلطة على أصول الدولة في أيدي مجلس واحد تعيّنهُ قمّة النخبة السياسية في لبنان. ولن يقتصر الأمر على هذا، إذ سرعان ما ستصبّ السلطة في جوهره، وسيصبح أداةً مؤثرةً للغاية، وغير خاضعة للمساءلة ديمقراطياً. وليسَ بعيداً القولُ بأن الصندوق السيادي نفسه يتعارضُ بشكل أساسي مع الحلول العادلة لفكّ الأزمة المالية؛ لأنه سيحمّل الدولة وحدها المسؤولية عن الانهيار المالي في لبنان، مما يعفي كلّ من مصرف لبنان والمصارف التجارية الأخرى من أي دور. علاوة على ذلك، فإن استخدام الأصول العامة لتغطية خسائر الدولة للبنوك يمثل سوء استخدام صارخ للموارد العامة. وفي ضوء هذه المخاوف، يجب رفض إنشاء صندوق سيادي للشركات المملوكة للدولة في لبنان بشدة لأنه لا يخدم المصلحة العامة.
تنفيذ تدابير الشفافية والمساءلة
لا يمكن أن تتمّ عمليّة إصلاح الشركات المملوكة للدولة، في مجالي الاتصالات والكهرباء إلّا من خلال إجراء تدقيق مالي واضح ومفصّل، من شأنه أن يفحص الأداء المالي والتشغيلي لهيئات أوجيرو وشركتي الاتصالات الخلوية ومؤسسة كهرباء لبنان. إذ إنّ هذه الشركات المملوكة للدّولة لا تلتزم اليوم بتقديم بياناتها الماليّة إلى وزارة الماليّة إلّا على أساس مخصص في شكل موازنة سنويّة؛ وهذا لأنّ مجالس إدارة هذه الشّركات ليست ملزمة قانونياً بتقديم مثل هذه المعلومات، وعليه تبقى هذه المعلومات غائبةً بشكلٍ عامّ.
على التدقيق أن يتمّ من قبل شركة دولية ذات سمعة جيدة، على عكس هيئات أو إجراءات المراجعة الموجودة داخل الدولة، ووفقاً لتوصيات صندوق النقد الدولي. كما يجب العمل على تعزيز عمليات التدقيق الخارجي من خلال وضع ديوان محاسبة يتمتع بصلاحيات واسعة، مع تفويض وميزانية وقوى عاملة موسعة لتقييم ومعالجة نتائج التدقيق. لقد أظهر الديوان سابقاً قدرته على تحديد المخالفات المالية صراحةً داخل الشركات المملوكة للدولة. ومن شأن هذا التدقيق السنوي المنشور للشركات المملوكة للدولة أن يضمن مراقبة الأنشطة المالية على أساس منتظم. ومن أجل الالتزام بجميع هذه الخطوات، فإنّه سيتم العمل على تقديم منصّة رقميّة مركزيّة، تتولّى إدخال المعلومات المالية السنوية من قبل موظفي الخدمة المدنية في كل مؤسسة مملوكة للدولة، ثم تجميعها ونشرها في سياق التقارير الكاملة من قبل الموظفين العموميين والخبراء في وزارة المالية.
لاستكمال هذه المراجعة توصي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنشر تقرير إجمالي يغطي كافة أنشطة الشّركات المملوكة للدولة في لبنان بشكل سنوي. يشمل هذا التقرير معلومات تتضمّن القيمة الإجمالية لمحفظة الدولة من الشركات المملوكة للدولة، والمعلومات المالية الإجمالية والتقارير الصّادرة عن مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة، والنظر في المخاطر المالية المستمرة عبر مختلف القطاعات.
وأخيراً، فإنّه من الضروري أن يتمّ إنشاء نظام متكامل لإدارة المخاطر في كل شركة مملوكة للدولة على حدة، يتولّى مهمّة القيام بإعداد تقييمات دورية للمخاطر لقياس المخاطر الداخلية والخارجية من حيث احتمال حدوثها وتأثيرها. ومن شأن هذا النظام أن يعالج بشكل مباشر مجمل المخاطر المرتبطة بالفساد وأن يدرس أيضاً المجالات الأخرى التي من المحتمل أن تكونَ عالية المخاطر مثل العلاقات بين مجلس إدارة الشركات المملوكة للدولة والجهات التنظيمية والحوكمة. ومن المفضّل أن تكون نقطة البداية لهذا النظام اعتماد أداة فحص صحة المؤسسات المملوكة للدولة من صندوق النقد الدولي لتقييم السلامة المالية للشركات المملوكة للدولة من خلال مؤشرات تعكس ربحية الشركة وملاءتها وسيولتها، على أن يتمّ دمج تقييمات المخاطر مع التخطيط المركزي للسياسة المالية لوزارة المالية للحصول على نتائج مضمونة.
تعيين منظمي القطاع
منذ عام 2002، تمّ تكليف قطاعيّ الاتصالات والكهرباء في لبنان بإيجاد هيئات ناظمة، وفقاً للقانون رقم 462/2002 والقانون رقم 431/2002. اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على وضع القوانين السابقة، يلاحظ أن كلتا المؤسستين خارج نطاق العمل، وبدون أعضاء مجلس إدارة. وقد تمّت في هذه الفترة الممتدة، عملية نقل السلطات المندرجة ضمن اختصاص الهيئة التنظيمية، بما في ذلك، على سبيل المثال، القدرة على رفع ومراقبة التعريفات، إلى الوزراء المعنيين من خلال سلسلة من التدابير التشريعية.
أما في الوقت الحاضر، فإنّ كلّاً من القانون رقم 462/2002 والقانون رقم 431/2002 يخصّص لوزارتي الاتصالات والكهرباء– كل على حدة– صلاحية ترشيح أعضاء مجلس الإدارة، بطريقةٍ تخضع المرشّحين بعد ذلك لموافقة مجلس الوزراء. وهكذا، فإنّه كلما اتسعت المسافة بين التأثيرات السياسية والجهة التنظيمية، زادت الفوائد، وفقاً لما ورد في تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن المرجح أن تنتج هكذا مسافة قرارات تنظيمية متسقة ويمكن فهمها على المدى البعيد، كما وإن التطبيق المحايد للقرارات التنظيمية يتم ضمانه بشكل أفضل من خلال إبقاء هذه الكيانات “بعيدة عن الوزراء والوزارات”.
لتفادي اتّساع هذه الفجوات، من الضروري أن تتمّ عملية تعيين أعضاء المجلس التنظيمي في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان من قبل هيئة مستقلة تعطي الأولوية لمبادئ الجدارة في التوظيف، مع مصادقة البرلمان اللبناني لاحقاً على هذه التعيينات. كذلك، فإنّه يجب إخضاع أعضاء المجلس التنظيمي لمعايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للاستقلالية؛ ويشمل ذلك ضمان تعيين أعضاء الهيئات التنظيمية ومجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة وفقاً لتدابير تضارب المصالح، وتوفير تمويل “مسوّر” يحمي الأعضاء من التأثيرات غير المشروعة على قراراتهم الإدارية.
يجب ترشيح أعضاء المجالس التنظيمية في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان من قبل لجان اختيار مؤلفة من موظفي الخدمة المدنية والخبراء المعنيين.
إصلاح الحوكمة المؤسساتية
إن إيجاد تدابير حوكمة، مع إعطاء الأولوية للشفافية والاستدامة، يقع في قلب إصلاح الشّركات المملوكة للدولة في مجاليّ الاتصالات والكهرباء. ومع القدرة على إعادة تشكيل الشركات المملوكة للدولة مؤسسياً وتقليص الصلاحيات الوزارية، فإن الإصلاح لا يزال من آخر الأولويات الوزارية في قطاعي الاتصالات والكهرباء في لبنان.
هذا في الوقت الذي تقع فيه ترتيبات الحوكمة للشركات المملوكة للدولة في لبنان “دون المستوى الأمثل” وفقاً لبحث أجراه معهد باسل فليحان المالي. وينطبق ذلك على مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة التي تكون إمّا غير معينة أو تخضع للمحسوبية الطائفية والضغوط السياسية. وأحدث مثال على ذلك تعيينات 2020 لمجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، التي أدانها الخبراء باعتبارها محاصصة طائفية.
يجب أن تكون الخطوة الأساسية في إصلاح الحوكمة المؤسساتية للشركات المملوكة للدولة في لبنان التزامها الفوري بالمبادئ التوجيهية لحوكمة الشركات حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويستلزم ذلك أن تعمل مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة في مجال الاتصالات والكهرباء ضمن إطار قانوني وتنظيمي قوي يحمي استقلاليتها. كذلك، فإنّه يجب أن يكون هناك تطبيقٌ مصاحبٌ لمعايير حوكمة الشركات المملوكة للدولة التي تحترم وتعزز “ثقافة النزاهة المؤسسية” عبر كيانات إدارة الشركات المملوكة للدولة، على النحو المبين في تدابير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الفساد للشركات المملوكة للدولة. خصوصاً في ظل غيابها في الوقت الحاضر، إذ تم إحالة ثلاثة من أعضاء مجلس إدارة أوجيرو إلى ديوان المحاسبة بتهمة ارتكاب مخالفات قانونية في سنة 2020. كما، أنّه من الضروري أن تتضمن التدابيرالمتّبعة سياسةً واضحةً ومحددة تحظر الفساد، وتلتزم صراحةً بالضوابط الداخلية من قبل مجالس الإدارة والطواقم الإدارية، وبتدابير أخلاقيات المهنة والامتثال بالمعايير، وتشجيع الثقافة المفتوحة التي تحثّ على الحكم الرشيد والنزاهة.
إعادة عملية التعريفة إلى الجهة التنظيمية
على التعريفات أن تعكس التكلفة العادلة لتقديم الخدمات وألّا تستخدم الزيادات الحاصلة عليها لتجنب الإصلاح وتغطية خسائر الإيرادات المفرطة الناجمة عن العمليات المؤسسية غير الفعالة والبالية، أو سوء الإدارة. كما من شأنها حين ترفع تكاليفها أن تراعي ظروف السوق التي تتم فيها هذه الزيادة.
لقد كانت زيادة التعرفة سابقاً من اختصاص الجهات التنظيمية للقطاع، إلا أن التعديلات التشريعية المختلفة قد منحت سلطة تحديد ومراقبة تعرفة المرافق العامة إلى الوزارات المعنية واختصاصاتها. ومع ذلك، ونظراً للمستوى المطلوب من الخبرة لدى أعضاء المجالس التنظيمية، فإنهم سيكونون أكثر ملاءمة لتصميم منهجيات التعريفات. إنّ الالتزام بهذه المسألة من شأنه أن يسهّل الطريق أمام الجهة التنظيمية للتأكد من أن الأسعار النهائية التي يدفعها المستهلكون تعكس التكلفة المبررة للخدمات المقدمة وكافية لظروف السوق الحالية. لأنّه وفي غياب تنظيم سليم للتعرفة، فقد سعت وزارتا الطاقة والاتصالات لفرض زيادات غير منتظمة وسيئة التخطيط وغير فعالة على التعريفات منذ بداية الأزمة المالية في لبنان.
تمّ الإعلان عن رفع التعرفة للكهرباء التي توفرها الدولة في نهاية عام 2022، وتم تطبيق هذه الزيادة في شباط 2023. وكان من المفترض أن زيادة تعرفة الكهرباء ستعني “الوصول إلى استرداد التكلفة من اليوم الأول”، وفقاً لما صرّح به فياض في مقابلة سابقة مع البديل. منذ ذلك الحين اعترف وزير تصريف الأعمال أن عدم القدرة على تحصيل فواتير الطاقة من العملاء يعني أن الخطة فشلت. جددت وزارة الطاقة والمياه جهودها لاسترداد التكاليف في أيلول 2023 على شكل مقترح دولرة تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان جزئياً. وقد هدف هذا الإجراء إلى التغلب على النقص الذي تعاني منه وزارة الطاقة والمياه في احتياطيات العملات الأجنبية اللازمة لتمويل صيانة البنية التحتية ودفع مستحقات موردي الوقود. لكن ذلك سيتطلب من مشتركي مؤسسة كهرباء لبنان تسديد فواتيرهم نقداً– بالدولار أو الليرة– بسعر صرف أعلى من السوق الموازية.
أمّا في قطاع الاتصالات فقد شهدت تعرفة المكالمات الثابتة والإنترنت من أوجيرو زيادة بمقدار سبعة أضعاف في أيلول 2023. وفي هذا الصدد، قال جوني قرم في مقابلة مع البديل: “أنظر إلى الأمر على أنه تخفيض في التعريفة الجمركية”. وأوضح الوزير المكلّف أن ذلك يرجع إلى أن سعر التعرفة بالدولار أصبح الآن أقل من تكلفة خدمات الاتصالات مقارنةً بسعر الصرف قبل الأزمة.
إنّ الانهيار المالي الذي بدأت تتمظهر تبعاته ابتداءً من العام 2019 قد بدأ يشهد انخفاضاً مصاحباً في القوة الشرائية، مما يعني أن التعريفات الجمركية كانت وما تزال تشغل جزءاً أكبر من ميزانيات الأسر. وكانت مجموعة من المتظاهرين قد تجمّعت أمام مقرّ شركة كهرباء لبنان في بيروت للتنديد بارتفاع فواتير الكهرباء في ظل غياب تحسن في الخدمات في أيلول 2023. والجدير بالذّكر، أنّه وبعد زيادة تعرفة الاتصالات في عام 2022، فقد أظهرت بعض التقارير بأن الأسر الضعيفة في لبنان– غير القادرة على دفع فواتير هواتفها– معزولة عن وكالات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات الدعم الأساسية.
وعلى الرغم من أنّ استمرار الإعانات لم يكن سيؤدي سوى إلى المزيد من استنزاف خزينة الدولة، فإن زيادة التعريفات وحدها لا يمكن أن تكونَ تدبيراً مستداماً للإصلاح في الشركات المملوكة للدولة في مجالي الاتصالات والكهرباء. كما أنّها تستغلّ غياب الإصلاحات المؤسساتية المصاحبة، لتضخّ الأموال إلى مؤسسات بالية وحسب، بهدف تمكينها من الاستمرار في العمل بشكل غير فعّال وغير منتج. ولذلك، يجب أن تكون التعريفات مصحوبة بالإصلاحات المؤسساتية المبينة في هذه الورقة، بما يتضمّن تفعيل هيئة ناظمة وإصلاح الحوكمة، والبدء بعمليات التدقيق السنوية، وإيجاد قانون جديد للشركات المملوكة للدولة.
في غياب تنظيم سليم للتعرفة، فقد سعت وزارتا الطاقة والاتصالات لفرض زيادات غير منتظمة وسيئة التخطيط وغير فعالة على التعريفات منذ بداية الأزمة المالية في لبنان.
وضع المعايير والمبادئ المناسبة للخصخصة
في عام 2021، حدد ألبير كوستانيان، الخبير الاقتصادي اللبناني الزميل في قسم السياسات في معهد عصام فارس التابع للجامعة الأميركية في بيروت، سلسلة من المتطلبات المسبقة للنظر في خصخصة الشركات المملوكة للدولة في لبنان. شملت هذه المقترحات استراتيجية وطنية للشركات المملوكة للدولة، وبيئة تنظيمية سليمة، وقوانين وأطر مكافحة الفساد، وعمليات شراء كاملة وشفافة. ومع دخولنا في العام الجديد (2024) يلاحظ أن جميع هذه المتطلبات ما تزال غائبة عن التطبيق وغير محقّقة.
تحمل كل مرحلة من عملية الخصخصة مجموعة فريدة من المخاطر المتعلقة بالفساد المحتمل– أي إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية– وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لهذا، يجب أن يخضع مشترو المؤسسات أو الشركاء المحتملون في الخصخصة إلى إجراءات التدقيق وتضارب المصالح وفقاً لما هو منصوص عليه في معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهذا مهم بشكل خاص نظراً إلى ما إذا كانت الخصخصة ستؤدي في الواقع إلى إزالة التدخل السياسي الشائع في العديد من القطاعات في الاقتصاد اللبناني. إذ ما تزال هناك مخاطر جمّة في عمليّة بيع أصول الدولة لشركة خاصة مملوكة أو تابعة لشخصية سياسية.
وبالتالي فإن عملية الخصخصة– إذا تم إصلاحها– تتطلب وجود هيئة مستقلة ومحايدة وخبيرة تتمتع بسلطة على العملية. ويمتلك لبنان بالفعل الأسس لمثل هذا الكيان على شكل المجلس الأعلى للخصخصة الذي أنشئ بموجب القانون رقم 228/2000، والمكلف بالإشراف على تخطيط وتنفيذ برامج الخصخصة في لبنان؛ وهو يتشكل في الوقت الحاضر من لجنة وزارية يرأسها رئيس مجلس الوزراء وتتكون من أربعة أعضاء. وعليه، يجب أن تكون سلطة المجلس متوازنة من خلال إشراك الجهة التنظيمية للقطاع المعني بالشركة المملوكة للدولة.
يجب توضيح أهداف الخصخصة ومبرراتها في شكل وثيقة ملزمة قانوناً يعدها المجلس الأعلى للخصخصة بالاشتراك مع مجلس تنظيمي، والتي سيكون من شأنها أن تتأكد من المدى الذي لم يعد مبرراً أن تقع المؤسسة المعنية فيه ضمن ملكية الدولة، وما هي أسباب ذلك. كما يجب أن تتضمن الوثيقة خططاً واضحة بشأن تخصيص العائدات المالية من خصخصة الشركة المملوكة للدولة. وبمجرد تسويتها، على الوثيقة أن تقدّم لاحقاً إلى البرلمان بهدف الموافقة عليها قبل المضي قدماً في عملية الخصخصة.
ويجب اتخاذ عدة خطوات بعد الخصخصة، بما في ذلك مراجعة الصفقة من قبل ديوان المحاسبة الأعلى. ومن المهم والفعّال أن يكون هناك مستوى عالٍ من المساءلة والشفافية في التعامل مع العائدات المالية لعملية الخصخصة، خاصة إذا تم تحويلها لتحقيق أهداف معينة في السياسة العامة مثل تخفيض الديون، أو إعادة استثمار العائدات لدعم الخدمات العامة، أو غيرها من أولويات السياسات. ويتم ضمان ذلك من خلال الوثيقة المذكورة أعلاه التي تحدد أين سيتم تخصيص الأموال قبل الخصخصة. وعلى المجلس الأعلى للخصخصة، والجهة التنظيمية المختصة، التأكد بعد ذلك من تخصيص الأموال وفقاً للغرض الأصلي منها.
22 مؤسسة
يمكنُ فهم المؤسسات المملوكة للدولة بشكل عامٍ على أنها كيانات مملوكة للقطاع العام تعمل باستقلال إداري ومالي، وتخضع لملكية وسيطرة الحكومة- جزئياً أو كلياً- وتمارس نشاطات تجارية أو اقتصادية، على النحو المحدّد من قبل صندوق النقد الدولي. يوجد في لبنان، اليوم 22 مؤسسة مملوكة للدولة وفقاً لهذا المعيار، تتراوح من مقدميّ الخدمات العامة إلى المؤسسات التجارية. إلّا أن هذه الشركات المملوكة للدولة لم يتم تعريفها أو تفصيلها رسمياً في التشريعات القائمة في لبنان، مما يسهم في خلق الغموض حولها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالرقابة والمساءلة.
تعمل الشركات المملوكة للدولة في لبنان حالياً بموجب نموذج “لامركزية” الملكيّة وفق معيار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وفي إطار اللامركزية هذا يتم تكليف الوزارات الفردية بملكيّة كل مؤسسة وإدارتها. ومع ذلك، لم يتم توضيح هذا النظام بشكل صريح في التشريعات القائمة، مما يؤدي إلى غموض وتضاربات حول إدارة هذه المؤسسات. وفي حالة غياب الهيئات التنظيمية النشطة في لبنان، فإنّه غالباً ما تتولى الوزارات المعنية المهام التنظيمية والملكية للشركات المملوكة للدولة الخاضعة لسلطتها، متجاوزةً بذلك التشريعات اللازمة التي تقتضي الفصل والتنظيم، إذ تتعارض هذه الازدواجية في الوظائف مع المعايير الدولية بشكل مباشر وتدلّل على مشكلة مفصلية في مجال الحوكمة.
يتطلب إصلاح الشركات المملوكة للدولة في لبنان استراتيجية متوازنة تعالج القضايا الأساسية التي تؤثر على الشركات في جميع المجالات، مع تقديم نهج مصمم خصيصاً لمعالجة التحديات المحددة لكل مؤسسة على حدة. أما على مستوى الشركات بشكل عام، فإن قانوناً جديداً للشركات المملوكة للدولة سيتوكلّ مهمة وضع استراتيجية واضحة للملكية وبالتالي تحديد الأهداف الرئيسة ومبادئ الرقابة والإدارة وفقاً لما جاء في توصيات صندوق النقد الدولي صدر عقب زيارة ممثليه للبنان في حزيران 2023.
غالباً ما تكون الشركات المملوكة للدولة الناشطة في قطاعي الكهرباء والاتصالات في لبنان على النقيض من بعضها في ما يتعلق بالأداء الوظيفي، نظراً للخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات التي تكشف عن فجوة الخسائر التي تكبدتها كل واحدة على حدة، مقابل الأرباح الخاصة بالأخرى. ومع ذلك، تعاني كلّ واحدة من هذه الشركات تحديات نظامية ومؤسسية عميقة تتطلب الإصلاح بشكل عاجل لتحسين جودة وتكاليف الخدمات التي تقدّمها للبنانيين.
التطلّع قدماً
تواجه الشركات المملوكة للدولة في قطاعيّ الاتصالات والكهرباء في لبنان عدداً كبيراً من التحديات، تتراوح بين الديون الباهظة وسوء الإدارة المالية المنهجية. وقد أدت هذه المصاعب– التي تم وضعها في سياق الأزمة المالية الحالية في لبنان– إلى انقطاع شديد في الخدمات ونزيف مالي على مدى سنوات طويلة. وما يفاقم من هذا الأمر، تضخّم الفجوة الملحوظة بين التفويضات القانونية والعمليات الفعلية، حيث تتجاوز الوزارات في كلا القطاعين حدودها في مجالات متعددة.
يتطلب إحياء الشركات المملوكة للدولة في مجال الاتصالات والكهرباء في لبنان نهجاً متعدد الأوجه يعطي الأولوية للشفافية والحوكمة الفعّالة والاستقلال التنظيمي، والنظر الحذر في الخصخصة. وما لم يتمّ الالتفات إلى جميع هذه الخطوات المفصّلة ودعمها عن طريق الوزراء الذين لا يرغبون حالياً في التخلّي عن السيطرة على هذه الشركات في مجالات عدّة، فإنّه لن يتمّ تنشيط هذه القطاعات الحيوية لخدمة احتياجات لبنان الاقتصادية ومواطنيه بشكل أفضل.