حدّد قانون الموارد البترولية في المياه البحرية رقم 132 للعام 2010 نظام إستثمار الثروة البترولية بنظام تقاسم الإنتاج (Production Sharing Agreement) وهو يعتبر جزءاً من النظام التعاقدي. بحيث تتكوّن مداخيل الدولة بموجبه من إتجاهات ثلاثة: الإتاوة، بترول الربح والضرائب.
وفي هذا الإطار، نصّ القانون في مادّته الثالثة على ضرورة إنشاء صندوق سيادي تودع فيه جميع العائدات المالية المتأتية من الأنشطة البتروليّة، على أن يُحدّد نظام الصندوق ونظام إدارته بموجب قانون خاص وفق مبادئ وأسس واضحة وشفافة للتوظيف، تمكّن الدولة من حماية حقوق الأجيال المقبلة فضلاً عن تنفيذ مشاريع إستثمارية مختلفة بما يُجنّب الإقتصاد أيّة إنعكاسات سلبيّة محتملة.
إلا أن قانون إنشاء هذا الصندوق لم يصدر بعد بفعل الخلاف بين المكوّنات السياسية اللبنانية حول طرق إدارته وأساليب عمله. الأمر الذي يمهّد للحديث عن موضوع تعزيز الشفافية في القطاع النفطي لاسيما لجهة إدارة العائدات المالية الكبيرة المتوقعة. فهذا تحدّ كبير تواجهه الدولة اللبنانية خاصة بعدما أعلنت نيتها الإنضمام إلى مبادرة الشفافية الدولية للصناعات الإستخراجية.
يكمن السؤال الأساسي في هذا المجال، في كيفيّة إدارة العائدات. فكيف سيستطيع لبنان إدارة ثروته البترولية وحمايتها من الفساد وما هي الأصول والمبادئ التي سيتبعها في استثمار العائدات لجهة الحوكمة والشفافيّة والمساءلة؟ خاصة أن تجربة لبنان مع الصناديق غير مشجّعة إطلاقاً، فالتحدّي الكبير يكمن في حسن إدارة هذه العائدات ليكون الصندوق ناجحاً وليس فاشلاً.
إن القانون عندما يصدر سوف يحدّد بالتأكيد كل هذه الأمور. ولغاية اليوم، تم حسم عدة أمور أهمها مسألة تشكيل محفظة للإدخار والإستثمار وهي مخصّصة للأجيال المقبلة لا يتمّ المسّ بعائداتها وتستثمر بمشاريع منتجة وهي بنسبة 80%، أمّا الـ20% الأخرى فتخصّص لمشاريع تنموية تعود بالنفع للمجتمع. بانتظار حسم البعض الآخر كمسألة تعيين المرجعية الدستورية للصندوق السيادي التي تشرف بشكل رقابي عليه. فالمناقشات لا تزال تدور داخل لجنة فرعيّة منبثقة عن لجنة المال والموازنة يرأسها النائب إبراهيم كنعان وهي تتمحور حول أربعة إقتراحات قوانين تم تقديمها من قبل كتل سياسية مختلفة. إقتراح القانون المقدّم من تكتل لبنان القوي وكتلة التنمية والتحرير واللقاء الديمقراطي، ومؤخراً إقتراح القانون المقدّم من قبل تكتل الجمهورية القوية. لن ندخل في تفاصيلها الآن، فما يهمنا هو إرساء المبادئ والأسس الآمنة والسليمة لإنشاء هذا الصندوق.
أولاً: في المبدأ
تعدّدت التعريفات في ما خصّ الصندوق السيادي لكن معظمها أجمع على كونه صندوقاً إستثمارياً تعود ملكيته للدولة يهدف إلى استثمار العائدات الماليّة المتأتية من الأنشطة البتروليّة بأفضل الطرق الممكنة. يتم إنشاء هذا الصندوق لأسباب عدّة تتعلّق بتدارك النضوب الطبيعي للموارد البترولية، بالإضافة إلى تجنّب الإنعكاسات السلبية للعائدات والتدفّقات النقديّة الناتجة عن استغلال هذه الموارد.
تهدف هذه الصناديق إلى دعم الإقتصاد الوطني، كما تهدف إلى تحقيق التقدم والتطور والإستفادة من عائدات النفط في مشاريع إستثماريّة على المدى البعيد تكون ذات أهميّة إستراتيجيّة للإقتصاد الوطني كمشاريع الطاقة المتجدّدة ومشاريع البنى التحتية والمشاريع الإنمائية التي تؤدي إلى تحقيق التنمية المستدامة. فضلاً عن تأمين حقوق الأجيال المقبلة وذلك لغاية تحقيق العدالة بين الأجيال وتلبية الإحتياجات المستقبليّة عندما تستنفد هذه الموارد الناضبة.
يُعتبر الصندوق السيادي النروجي أكبر صندوق سيادي في العالم بقيمة ألف مليار دولار، كما ويعدّ نموذج الحوكمة في هذا الصندوق من أنجح التجارب الدوليّة في مجال حسن إدارة العائدات المتأتية عن الأنشطة البتروليّة. إذ يتميّز نموذج حوكمة صندوق الثروة السيادي في النروج بتقسيم واضح للمهام والمسؤوليات بين مختلف الهيئات المكلّفة بإدارة ومراقبة نشاط الصندوق. ويعتمد نظام الرقابة والإشراف للصندوق السيادي النروجي على تدخّل ثلاث هيئات تتكوّن من البرلمان النروجي بالإضافة إلى وزارة الماليّة النروجيّة فضلاً عن البنك المركزي النروجي.
إنطلاقاً من هنا، أصبح من الضروري للبنان تحديد المبادئ الأساسية والأسس اللازمة لإرساء الإطار القانوني والإداري والمالي للصندوق السيادي بعيداً عن التناقضات السياسية ووفقاً لخصوصية الحالة اللبنانية. وذلك ضمن إطار صياغة استراتيجية شاملة للطاقة تضمن مقاربة ناجحة للتحديات التي يمكن أن تواجه القطاع في المستقبل كما وتؤمّن توسيع قاعدة المشاركة في عملية صنع القرار.
فمن أبرز هذه الأسس: وضع أهداف واستراتيجيات استثمار محدّدة وواضحة، وضع قواعد مالية واضحة ترعى استخدام أموال الصندوق، إرساء آلية واضحة لحوكمة الصندوق تحدد بوضوح دور ومسؤوليات السلطات والهيئات الإدارية والرقابية المعنية، إتّسامه بسياسة شفافة تفتح المجال أمام المساءلة، تحقيق التنمية المستدامة.
ثانياً: في التطبيق
في ما خصّ الحالة اللبنانيّة، يتميّز لبنان بمدركات فساد عالية يُرجّح أن تترك أثرها السلبي على الصندوق السيادي اللبناني، إلا في حال تم اعتماد أسس سليمة وواضحة لحوكمته تنظّم المسؤوليات وتوزّعها على الجهات المخوّلة إدارة الصندوق ومراقبة عمله.
تتطلّب عملية الحوكمة السليمة للصندوق مبادئ متعارفاً عليها وضعتها مجموعة العمل الدوليّة، لعلّ أهمها ضرورة الفصل بين وظائف الجهة المالكة للصندوق والجهة المسيطرة عليه أي المشغّلة له. فالصناديق السياديّة تكون مملوكة من قبل الحكومة المركزيّة ولا يجوز أن يجمع المسؤولون الحكوميّون بين دوري الملكيّة من جهة، والإشراف الإداري الذي يجب أن يكون من مسؤوليّة طرف آخر من جهة أخرى. لأن جمع الأدوار يؤدّي إلى تضارب في المصالح الذي من شأنه إضعاف أداء الصندوق وفعاليّته.
من هنا تبرز أهميّة تمتّع مجلس إدارة الصندوق السيادي بالإستقلاليّة اللازمة، التي تؤدّي إلى انتظام عمله وإضفاء عنصر النزاهة عليه. فضلاً عن تعيين أعضائه المناسبين الأكفّاء بمعزل عن التدخلات السياسيّة والمحسوبيّة والمحاصصة. وإبعاد عمله عن التناقضات والأزمات السياسيّة التي تتميّز بها الحياة العامّة في لبنان الغني برأسماله البشري والخبرات العالية لأبنائه المقيمين والمغتربين.
في ما يتعلّق بعنصري الرقابة والمساءلة، تتطلّب عمليّة الحوكمة السليمة ضرورة إخضاع الصندوق السيادي للرقابة والتدقيقين الداخلي والخارجي. بالنسبة إلى التدقيق الداخلي، ينبغي إنشاء هيئة رقابيّة مستقلّة تجري عمليّة التدقيق هذه وترفع بموجبها التقارير الدوريّة مباشرة إلى مجلس إدارة الصندوق ومنه إلى ديوان المحاسبة. أمّا بالنسبة إلى التدقيق الخارجي، فيتوجّب أن تخضع عمليّات الصندوق السيادي إلى رقابة وتدقيق خارجيين من قبل مؤسسة معروفة عالميّاً تتمتّع بالخبرة والكفاءة اللازمة تماشياً مع معايير المحاسبة العامّة المعتمدة على المستويين الوطني والدولي.
الإشكالية الكبرى التي تطرح في هذا المجال والتي تأخذ الكثير من التجاذبات في وجهات النظر بين القوى السياسية اللبنانية تتعلّق بمسألة اختيار المرجعية الدستورية التي ستمارس سلطة الوصاية على الصندوق. لمن سيتبع؟ هل لوزارة المال أم للمصرف المركزي أم لجهة أخرى؟ فالجواب بانتظار التوافق السياسي.
إضافة إلى كل ذلك، لا بدّ من التنبّه إلى أن لبنان يعاني مشاكل إقتصاديّة مزمنة تتمثل في العجز بالمالية العامة، التصاعد المستمرّ والمتنامي للدين العام، إرتفاع معدل البطالة بحيث إن الإقتصاد اللبناني غير منتج ولا يخلق فرص عمل، كما والعجز المزمن بالميزان التجاري بالإضافة إلى تفشّي ظاهرة الفساد في لبنان: سوء الإدارة، الهدر، المحاصصة، الطائفيّة، سوء الحوكمة.
هذه الإعتبارات مجتمعة تطرح إشكاليات كبرى حول موضوع إنشاء الصندوق السيادي وطرق إدارته، خاصة في ظل الخلاف بين الأطراف السياسية والذي يؤخر حالياً إقرار قانون إنشاء هذا الصندوق. لذلك وتحقيقاً لعملية الإدارة الرشيدة للعائدات البترولية، فإن المبدأ الأساسي الذي يجب أن تبنى عليه عملية إدارة هذا الصندوق، يكمن في توزيع العائدات المالية ضمن مجالين أساسيين:
المجال الأول: جزء من هذه العائدات يتمّ تخصيصه للأجيال المستقبلية.
المجال الثاني: الجزء الآخر من العائدات المالية يتم تخصيصه لإقامة إستثمارات مختلفة تؤدي إلى منح عائدات إضافية ضمن إستراتيجيات استثمار طويلة الأجل. وبدورها، هذه العائدات المتأتية من الإستثمارات يتمّ توجيهها من خلال: خلق إستثمارات جديدة تساهم في تنمية الصندوق وتكبيره بشكل دائم ومستمرّ من جهة، ومن خلال ضخّ جزء من عائدات الإستثمارات في الموازنة اللبنانية بهدف خلق مشاريع إنمائية وزيادة النمو الذي يؤدّي تلقائياً إلى إطفاء الدين العام من جهة أخرى.
إذ من الضروري فصل حساب الصندوق عن الموازنة العامة بسبب العجز والفساد وكيفية استخدام عائدات هذا الصندوق، بحيث يجب أن تذهب أمواله للمشاريع الإستثماريّة وللنفقات الإنمائية (بنية تحتية) وليس لتسديد الدين العام بشكل مباشر. فعوائد هذه المشاريع وإيراداتها يمكن أن تغطي الدين العام تلقائياً وتخفّف من خدمة الدين وبالتالي تزيد النموّ.
من هنا الحاجة إلى اعتماد إستراتيجية شاملة وآمنة وشفّافة لعمل الصندوق، على قدر واسع من المعرفة والخبرة العملية التي تمكّنها من اتخاذ أفضل الإجراءات وتنويع المحفظة الإستثمارية وبالتالي خفض درجة المخاطرة، ليكون صندوقاً للثروة وليس صندوقاً يستدعي الثورة عليه.
في المحصّلة، تحديات كبيرة تواجه لبنان في موضوع تحقيق الإستغلال الأمثل لثروته البترولية الكامنة في مياهه البحرية والإدارة الرشيدة لعائداتها المالية. فهل سينجح في إدارة هذه العائدات وحمايتها من الفساد؟ إن العبرة تبقى في التطبيق بانتظار الأيام المقبلة…