تشهد الساحة المالية العالمية تحولًا كبيرًا بالتزامن مع تزايد الجهود للتخلص من هيمنة الدولار الأميركي. في هذا السياق تبرز الصين كلاعب رئيسي من خلال تعزيز استخدام عملتها الوطنية في التجارة الدولية. هذا التحول يحمل في طياته تحديات وفرصًا قد تعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي.
يمر المشهد المالي العالمي بمرحلة تحول دقيق ومهم يكمن في جوهره مفهوم “التخلص من الدولرة”، أي التخفيض التدريجي لهيمنة الدولار الأميركي على التجارة والتمويل الدوليين. واكتسبت هذه العملية زخمًا مؤخرًا رغم كونها تعود إلى سنوات. وأججها استخدام الصين المتزايد لعملتها الخاصة اليوان (الرنمينبي) في المعاملات عبر الحدود.
ويقول مايكل كيرن في تقرير نشره موقع أويل برايس الأميركي إن هذا التحول يمكن أن يعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي بعيدًا عن الدولار، وإن كان ذلك تدريجيًا. وقد يعني تراجع تركيز العالم على الدولار إعادة توزيع القوة والسلطة والنفوذ الاقتصادي. كما يمكن أن يزيد التقلبات والغموض في الأسواق المالية. ويمثل صعود اليوان تحديًا كبيرًا للنظام القائم مع استمرار الصين في تأكيد قوتها الاقتصادية.
ولا بد من التعمق في العوامل التي تدفع جهود الصين للتخلص من الدولار، وتأثير هذا على مشهد العملة العالمية، والآثار المحتملة على مستقبل التجارة والتمويل الدوليين. والتحدث أيضًا عن صعود اليوان، واعتبارات الصين الإستراتيجية، والتحديات والفرص التي تنتظر دول العالم.
اعتمدت الصين تاريخيًا، مثل العديد من الدول الأخرى، على الدولار بشكل كبير في تجارتها الدولية ومعاملاتها المالية. لكن هذا الاعتماد تضاءل خلال السنوات الأخيرة حيث تروج بكين بنشاط لاستخدام عملتها الخاصة.
وتمكنت من تسوية أقل من 1 في المئة من مدفوعاتها عبر الحدود باليوان خلال عام 2010، مقارنة بنسبة مذهلة بالدولار بلغت 83 في المئة. لكن شهر مارس 2023 شهد لحظة محورية شكّلها تجاوز اليوان للدولار لأول مرة. وأمكنت بحلول مارس 2024 تسوية أكثر من نصف المدفوعات الصينية (52.9 في المئة) باليوان، ما كان مضاعفة ملحوظة لحصتها في خضم خمس سنوات فقط.
ويمكن أن يرجع هذا التحول الدراماتيكي إلى عدة عوامل. أولًا، الرغبة المتزايدة بين الشركات الأجنبية في التجارة باليوان، حيث تسعى إلى تنويع حيازاتها من العملات وتقليل تعرضها لتأثيرات الدولار. ثانيًا، بدأت الكثير من البلدان، بما في ذلك البرازيل والأرجنتين، تقبل تسويات اليوان للتجارة، وهو ما رفع استخدامه دوليًا.
وقد لعبت الحكومة الصينية وبنكها المركزي، بنك الشعب الصيني، دورًا حاسمًا في دفع هذا الاتجاه. وفُعّلت سياسات لتسهيل استخدام اليوان في التجارة والاستثمار عبر الحدود، بما في ذلك إنشاء مراكز مقاصة لمعاملات اليوان الخارجية وتوسيع شبكة اتفاقيات مبادلة العملات الثنائية.
صعود اليوان في التجارة الدولية مرّ بمحطات مهمة. ففي عام 2016 تقرر إدراج اليوان في سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، وهو أصل احتياطي تستخدمه الدول الأعضاء. وبرهنت هذه الخطوة على أهمية اليوان المتزايدة في الاقتصاد العالمي ومهدت الطريق لاعتماده على نطاق أوسع.
لكن طريق عولمة اليوان شهد انتكاسات أيضًا. وتعرضت الصين خلال عامي 2015 و2016 لهجمة مضاربة على عملتها، سبّبها التوجّس من التباطؤ الاقتصادي وتدفقات رأس المال إلى خارج البلاد. وأجبر هذا بنك الشعب الصيني على التدخل لتحقيق استقرار اليوان، وهو ما سلط الضوء على تحديات إدارة عملة ذات دور عالمي متزايد.
“تسليح” الدولار أثار مخاوف بين العديد من البلدان، خاصة تلك التي تتعارض سياستها مع السياسة الخارجية الأميركية
ودفعت أزمة 2016 إلى إعادة تقييم إستراتيجية الصين للتخلص من الدولرة. وكان الطموح الأولي يكمن في إزالة الدولار على نطاق واسع وتوسيع مبادرة الحزام والطريق، لكن التركيز تحول نحو نهج أكثر حذرًا.
وأصبحت الأولوية هي تطوير أنظمة التسوية التجارية المقومة باليوان، ما يسمح للشركات بتجاوز الدولار في معاملاتها. كما شددت الحكومة ضوابط رأس المال لمنع التدفقات المفرطة إلى الخارج والحفاظ على الاستقرار المالي. وحدت هذه التدابير من انتشار اليوان العالمي رغم فاعليتها في حماية الاقتصاد.
وكانت هيمنة الدولار في التجارة الدولية مصدرًا للقوة والضعف بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حيث سمح لها بفرض عقوبات اقتصادية على بلدان أخرى من خلال تقييد قدرتها على الوصول إلى النظام المالي العالمي القائم على عملتها.
وأثار “تسليح” الدولار مخاوف بين العديد من البلدان، وخاصة تلك التي تتعارض مع السياسة الخارجية الأميركية. ونتج عن هذا اهتمام متزايد بإيجاد بدائل للدولار، مع بروز اليوان الصيني بصفته منافسًا محتملاً.
ولا يزال الدولار ملك سوق الصرف الأجنبي رغم ارتفاع مكانة اليوان. ووفقًا لبنك التسويات الدولية في عام 2022 اعتُمد الدولار في 88.5 في المئة من جميع معاملات العملات الأجنبية، يليه اليورو والين الياباني. ومن المثير للاهتمام أن حصة الدولار نمت بالفعل بنسبة 1.5 في المئة منذ 2010، وفي المقابل شهد اليورو والين انخفاضًا.
ورغم أن الرنمينبي (عملة الشعب) لا تزال لاعبًا صغيرًا نسبيًا بحصة 7 في المئة، إلا أنه كان الأسرع نموًا في سوق العملات الأجنبية على مدى العقد الماضي. ويشير هذا إلى اكتسابه قبولًا تدريجيًا كبديل عن الدولار، وخاصة في التجارة بين الصين وشركائها.
ويبدو تخلص الاقتصاد العالمي من الدولار كليًا غير مرجح في المستقبل القريب، لكن ارتفاع اليوان يبقى اتجاهًا مهمًا. ومن المرجح أن يلعب دورًا متزايد الأهمية في التجارة والتمويل الدوليين مع استمرار الصين في توسيع نفوذها الاقتصادي.
وتعمل الحكومة الصينية على تعزيز استخدام اليوان في المعاملات عبر الحدود، وتؤسس بثبات البنية التحتية اللازمة لدعم هذا الهدف. ويشمل ذلك إنشاء بنوك مقاصة لليوان في المراكز المالية الرئيسية، وتوسيع شبكة اتفاقيات مبادلة العملات، وتطوير منتجات مالية جديدة مقومة باليوان.
لكن الطريق إلى اليأونة لا يخلو من التحديات. ورغم أهمية ضوابط رأس المال الصارمة التي تفرضها الصين للحفاظ على الاستقرار المالي، إلا أنها تحد من جاذبية اليوان الدولية. كما لا يزال بنك الشعب الصيني متحكمًا في قيمة العملة، ما يثير مخاوف بشأن استقرارها على المدى الطويل والقدرة على التنبؤ بتقلباتها.
ويبقى ارتفاع اليوان اتجاهًا لا يمكن تجاهله رغم التحديات التي يواجهها.
ويمثل هذا تحولًا جوهريًا في المشهد المالي العالمي، وهو ما قد يخلف عواقب بعيدة المدى على مستقبل التجارة والاستثمار والقوة الجيوسياسية.