هل سيتمكن البشر من التوصل إلى تقنيات لبعث الموتى وإطالة الحياة؟ وهل يصبح البشر أكثر ذكاء بمليون مرة ويندمجون مع الآلات نتيجة تطوير رقائق الدماغ على المستوى البشري؟ هذه بعض من تساؤلات يطرحها ويجيب عليها عالم الكمبيوتر المستقبلي ريموند كورزويل.
أطلق عليه لقب “آلة التفكير المطلقة” من قبل فوربس، و”عبقري لا يهدأ” من قبل صحيفة وول ستريت جورنال. أدرجته PBS كواحد من 16 “ثوريا صنعوا أميركا”. وصنفته مجلة INC في المرتبة الثامنة بين رواد الأعمال “الأكثر روعة” في الولايات المتحدة. وقال بيل غيتس إنه “الأفضل في التنبؤ بمستقبل الذكاء الاصطناعي”.
إنه ريموند (راي) كورزويل، عالم المستقبليات الذي يتمتع بسجل حافل بالتنبؤات الدقيقة، مثل انتشار الإنترنت والهواتف الذكية وهزيمة الكومبيوتر للبشر في لعبة الشطرنج.
الاحتفاء به لا يأتي من فراغ، وليس هناك متّسع لتعداد إسهاماته، يكفي أنه لقب بـ”الوريث الشرعي لإديسون”.
بفضل رؤيته المستقبلية الجريئة، أصبح شخصية محورية في النقاشات حول مستقبل البشرية والتكنولوجيا.
في سن الخامسة عشرة، طور برنامجًا حاسوبيًا يحلل أعمال الملحنين الموسيقيين، مما جعله يظهر في برنامج تلفزيوني على شبكة سي بي إس. بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حيث درس علوم الكمبيوتر والأدب.
خلال مسيرته المهنية، قدم العديد من الابتكارات غيرت مجالات متعددة. في عام 1974، أسس شركة “كورزويل للحوسبة” وطوّر أول قارئ نصوص للمكفوفين، يستخدم تقنية التعرف على النصوص لتحويل النصوص المطبوعة إلى كلام مسموع. هذا الابتكار كان له تأثير كبير على حياة الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية.
في الثمانينات، طوّر أول آلة موسيقية إلكترونية قادرة على محاكاة الأصوات الطبيعية للآلات الموسيقية التقليدية. هذه الآلة، المعروفة باسم “كورزويل 250″، أصبحت معيارًا في صناعة الموسيقى واستخدمها العديد من الموسيقيين المحترفين.
وفي عام 2012، انضم كورزويل إلى شركة غوغل كمدير للهندسة، حيث يركز على مشاريع الذكاء الاصطناعي. في هذا الدور، يعمل كورزويل على تطوير تقنيات جديدة لتحسين قدرات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مجموعة واسعة من المجالات، من تحسين محركات البحث إلى تطوير تقنيات التعلم الآلي.
ولكن شهرة كورزويل تعود أكثر إلى توقعاته المستقبلية الجريئة حول التكنولوجيا. في كتابه “التفرد قريب” (The Singularity Is Near)، صدر عام 2005، توقع أن يحدث التفرد التكنولوجي، وهو النقطة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، ويؤدي إلى اندماج البشر مع الآلات، بحلول عام 2045.
حينها توقع كورزويل أيضا أن يتيح التقدم في التكنولوجيا الطبية للبشر تحقيق “سرعة الهروب” من أجل الخلود بحلول عام 2030. وأن تقنيات مثل العلاج الجيني، والخلايا الجذعية، والذكاء الاصطناعي ستلعب دورًا كبيرًا في هذا المجال.
بعد عشرين عاما (يوليو 2024) يعود كورزويل إلينا بكتاب آخر وبعنوان صادم “التفرد أقرب” (The Singularity Is Nearer)، يقدم من خلاله منظورًا محدثًا حول التقدم نحو التفرد التكنولوجي، يعيد فيه النظر بتوقعاته السابقة ويستعرض النمو الهائل للتكنولوجيا الذي يمكن أن يوسع الذكاء البشري بشكل كبير.
في “التفرد أقرب”، يناقش كورزويل كيف يمكن للتكنولوجيا أن تغيّر حياة الإنسان بشكل جذري، بما في ذلك استخدام الروبوتات النانوية لإعادة بناء العالم ذرة بعد ذرة، وإطالة حياة البشر إلى ما بعد الحد العمري الحالي، وربط أدمغتنا بالتكنولوجيا وبالسحابة الرقمية لتحسين الذكاء البشري. كما يتناول المخاطر المحتملة للتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا النانو، والذكاء الاصطناعي، ويقدم رؤى حول كيفية تأثير هذه التقنيات على مختلف جوانب حياتنا.
التقدم في الذكاء الاصطناعي سيجعل من الممكن إحياء مقربين فقدناهم وربط أدمغتنا بالتكنولوجيا السحابية، في ما يسميه “العصر الخامس” للذكاء البشري.
في كتابه الجديد يؤكد كورزويل أن “الأطفال الذين يولدون اليوم سيكونون قد تخرجوا من الجامعة للتو عندما تحدث حالة التفرد. وفي نهاية المطاف، ستمكّن تكنولوجيا النانو هذه الاتجاهات من بلوغ ذروتها في توسيع أدمغتنا مباشرة بطبقات من الخلايا العصبية الافتراضية. وبهذه الطريقة سنُدمج مع الذكاء الاصطناعي”.
ويتابع قائلا إن الإنجازات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT، تُظهر أن نبوءاته عام 2005 في كتابه الأول “التفرد يقترب” كانت صحيحة، وأن “المسار واضح”.
يعتقد كورزويل أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحمل الوعد بـ”بعث” الموتى: “في البداية ستكون على شكل محاكاة للشخص، ثم سيتم بعثه جسديا إلى الحياة”.
وكان كورزويل قد بدأ محاولات “لإعادة” والده إلى الحياة باستخدام الذكاء الاصطناعي، منذ أكثر من 10 سنوات. وابتكر نسخة طبق الأصل من والده عن طريق تغذية نظام الذكاء الاصطناعي برسائل والده ومقالاته ومؤلفاته الموسيقية.
ويتوقع كورزويل أن ينتقل البشر إلى أجسام اصطناعية “أكثر تقدما مما تسمح به البيولوجيا”، وأنه بحلول أربعينات القرن الحادي والعشرين سيكون من الممكن إنتاج نسخة من أيّ الشخص.
ووفق كورزويل نحن على وشك دخول “العصر الخامس” من الذكاء، حيث يندمج الإنسان مع الآلات، نتيجة تطوير رقائق الدماغ على المستوى البشري مثل رقائق شركة نيورالينك.
إلى وقت قريب كنا نتعامل مع النبوءات العلمية على أنها نوع من الخيال العلمي، والغريب أن هذه النبوءات كانت تتحقق دائما
ويعتقد أنه في السنوات التالية لعام 2029، سيتضاعف الذكاء البشري ملايين المرات من خلال اتصال البشر مباشرة بالآلات.
ويتوقع كورزويل أن يبدأ الناس في تحقيق “سرعة الهروب” من أجل الخلود بحلول عام 2030. سيتم دعم ذلك بقفزات هائلة إلى الأمام في مجال العلاج الصحي.
و”بحلول عام 2030، ستقوم أجهزة المحاكاة البيولوجية العاملة بالذكاء الاصطناعي بإجراء تجارب سريرية في ساعات بدلا من سنوات، ما يؤدي إلى أدوية جديدة وعلاجات تطيل العمر”.
الهدف طويل المدى وفق كورزويل يتمثل “في تطوير روبوتات نانوية طبية. سيتم تصنيعها من أجزاء ماسية مع أجهزة استشعار وأجهزة كمبيوتر وأجهزة اتصال”.
ويعتقد كورزويل أن التكنولوجيا ستحدث ثورة في حياتنا اليومية، تكون فيها الروبوتات قادرة على بناء ناطحات السحاب بسرعة لا تصدق، بمساعدة الطابعات ثلاثية الأبعاد.
وستؤدي الاختراقات الأخرى التي يقودها الذكاء الاصطناعي إلى خفض أسعار الطاقة الشمسية. وفي الوقت نفسه، فإن الاختراقات في مجال التنقيب بالاستعانة بالروبوتات والذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى خفض تكاليف التعدين.
باختصار، يقول كورزويل “في ثلاثينات القرن الحادي والعشرين سيكون العيش في مستوى يعتبر فخما اليوم غير مكلف نسبيا”.
وهذا يعيدنا إلى كتاب آخر له صدر عام 1999 بعنوان “عصر الآلات الروحية” اقترح فيه “قانون تسريع العوائد”، بموجبه يميل معدل التغيير في مجموعة واسعة من الأنظمة (بما في ذلك نمو التقنيات) إلى الزيادة بشكل كبير. وأكد على هذا في مقال نشره عام 2001 بعنوان “قانون تسريع العائدات”، يقترح توسيع قانون مور ليشمل مجموعة واسعة من التقنيات، وجادل لصالح مفهوم جون فون نيومان “التفرد التكنولوجي”.
وكان نيومان أول من استخدم المصطلح الذي يشير إلى النقطة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري في خمسينات القرن الماضي، وهو ما سيؤدي إلى تغييرات جذرية سريعة لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
ووفق نيومان سيؤدي تفوق تطوير ذكاء اصطناعي على الذكاء البشري إلى نمو تكنولوجي سريع وغير متوقع. هذا الذكاء الاصطناعي “سيكون قادرًا على تطوير نفسه بشكل مستمر، مما يؤدي إلى انفجار معرفي يتجاوز قدرات البشر”.
وعند الوصول إلى التفرد التكنولوجي، ستحدث تغييرات كبيرة في جميع جوانب الحياة البشرية. هذه التغييرات قد تكون إيجابية، مثل حل مشكلات كبيرة كالأمراض والفقر، أو التغييرات سلبية، مثل فقدان السيطرة على التكنولوجيا.
نيومان يعتقد أنه من الصعب أو المستحيل للبشر في الوقت الحالي (خمسينات القرن الماضي) توقع ما ستغدو عليه الحياة بعد التفرد التكنولوجي. وهو ما جعل من التفرد موضوعًا مثيرًا للجدل والنقاش بين العلماء والمفكرين.
وبعد أكثر من سبعين عام يجادل كورزويل أن المستقبل ليس قاتما، ويقترح حلولا لذلك.
في ظهوره في وسائل الإعلام، شدد كورزويل على المخاطر المحتملة الشديدة لتكنولوجيا النانو، وفي الوقت نفسه جادل أنه في الممارسة العملية، لا يمكن إيقاف التقدم لأن ذلك سيتطلب نظاما شموليا، وأيّ محاولة للقيام بذلك من شأنها أن تدفن التقنيات التي نعتبرها خطرة، ونحرم بذلك العلماء من أدوات الدفاع. ويقترح أن الطريق المناسب للتنظيم هو ضمان سير التقدم التكنولوجي بأمان وبسرعة، حتى لا يحرم العالم من فوائد عميقة.
كورزويل يعتقد أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحمل الوعد بـ”بعث” الموتى: “في البداية ستكون على شكل محاكاة للشخص، ثم سيتم بعثه جسديا إلى الحياة”
لتجنب مخاطر مثل تكرار الروبوتات النانوية غير المقيدة، يقول كورزويل يجب أن تكون أولوياتنا منصبة على التطوير المستمر للتقنيات الدفاعية، وزيادة الوعي العام، والتعاون الدولي، واستطلاع البرمجيات، وتعزيز قيم الحرية والتسامح واحترام المعرفة والتنوع”.
ويدافع كورزويل عن نظرية “الدخل الأساسي الشامل” (UBI)، وحجته في ذلك أن التقدم في العلوم والتكنولوجيا سيؤدي إلى وفرة من الموارد المجانية تقريبا، ويمكن كل مواطن من العيش دون الحاجة إلى العمل، ويؤكد قائلا “نحن نتجه إلى وضع يمكن للجميع فيه العيش بشكل جيد للغاية”.
ووفقا لراي، فإن العقبة الرئيسة أمام تطبيق “الدخل الأساسي الشامل” ليست الجدوى، ولكن الإرادة السياسية، التي تتجاوب ببطء. وفي حدث مع تيد، في برنامج “تيد توك” التلفزيوني، عام 2018، توقع أنه “في أوائل عام 2030، سيكون لدى العالم المتقدم دخل أساسي عالمي. سنكون قادرين على العيش بشكل جيد للغاية. وسيكون شاغلنا الأساسي هو المعنى والهدف”.
رغم إنجازاته الكبيرة، يواجه كورزويل انتقادات من بعض العلماء الذين يشككون في إمكانية تحقيق بعض توقعاته في الإطار الزمني الذي حدده. كما تثير بعض توقعاته، مثل التفرد التكنولوجي ودمج الإنسان مع الآلات، تساؤلات أخلاقية واجتماعية كبيرة.
ولكن، حتى لو رفضنا الأخذ بتوقعاته، لا يمكن إنكار تأثير آرائه على التكنولوجيا الحديثة، فقد شغلت حيزا كبيرًا من النقاش حول مستقبل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وأصبح مصدر إلهام للعديد من العلماء والمخترعين حول العالم.
إلى وقت قريب كنا نتعامل مع النبوءات العلمية على أنها نوع من الخيال العلمي، والغريب أن هذه النبوءات كانت تتحقق دائما، وما كان في وقت ما مجرد خيال سرعان ما أصبح حقيقة.