على بُعد أسابيع من انقضاء عام التحديات، يسَجّل للكثير من المؤسسات اللبنانية قدرتها على الصمود والنجاح بتحدي البقاء. قسم منها استطاع التأقلم مع المتغيرات، فيما أعلن القسم الآخر انسحابه نهائياً من الأسواق. في حين ما زالت أغلبية الشركات الصامدة تراهن على تغيير ما، قد يجنبها تجرع كأس الإقفال وتشريد آلاف العمال. إلا أنه في حال لم يأت التغيير المنشود، المرتبط بتنفيذ الاصلاحات واستقطاب التدفقات المالية بالعملة الاجنبية من صندوق النقد الدولي، فان “العام القادم سيكون عام الإنهيارات بالجملة، بعدما اقتصرت هذا العام على المفرق”، يقول نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان نبيل فهد.
الإصلاح وإلا الإنهيار
تغييب الاصلاحات وإهمال الشروط الأولية لبسط الدولة سيطرتها على الاقتصاد، بدأ يضغط بشدة على الوضع النقدي والتجاري. فبحسب التقرير الصادر عن “المركزي” أخيراً، فإن قيمة الإعتمادات المستندية المفتوحة تراجعت خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري بنسبة 90 في المئة، محققة ما يقارب 500 مليون دولار مقابل أكثر من 5 مليارات دولار للفترة نفسها من العام الماضي. وبحسب فهد فإن “هذه النسبة المرتفعة للغاية لا تعكس بالضرورة واقع النشاط التجاري وحركة الاستيراد، بقدر ما تدل على ازدياد التعامل النقدي بين المستوردين والمصدرين من دون المرور بالمصارف من اجل فتح الاعتمادات وضمانها. حيث استبدل التجار خطاب الاعتماد بتسديد المبالغ للشركات مسبقاً”. فالاعتمادات المستندية بما تمثل من كتاب تعهد صادر من البنك فاتح الاعتماد بناء على طلب المستورد، يتعهد فيه البنك بدفع مبلغ او تفويض بنك آخر بالدفع للمصدّر، جرى تخطيها بشكل كبير كما تظهر أرقام المركزي. وعليه فان نسبة “التراجع التجاري لجهة الاستيراد تحديداً انخفضت بنسبة تقدر بين 50 و60 في المئة، وليس 90 في المئة كما يفهم من الارقام”، يشير فهد.
إنخفاض الاعتمادات المستندية إن لم يدل بشكل واضح على تراجع الحركة التجارية، فهو يبقى خير معبرٍ عن تعمق الاقتصاد النقدي. ما يؤشر إلى عواقب وخيمة حلّها الوحيد يكون عادة بالتشجيع على التعامل الالكتروني. إلا ان “مشكلة الإجراءات التي حاول اتخاذها مصرف لبنان للحد من التعامل النقدي أتت شاملة بدلاً من ان تكون موجهة نحو القطاعات التي تسحب سيولة بكميات كبيرة”، من وجهة نظر فهد. أما إلزام المستهلكين على استعمال الوسائل الالكترونية بالدفع، فيجب ان يترافق، برأيه، “مع ايجاد وحدات صرافة خاصة داخل المصارف، تتيح للتجار تحويل ما في الحسابات من ليرة إلى دولار بحسب سعر الصرف في السوق الثانوية. وإلا فان إلزام المواطنين بالدفع عبر البطاقات أو الشيكات أو التحاويل، ومنع التجار من سحب الاموال نقداً من حساباتهم سيخلق أزمة مجاعة. لان التجار عندها سيعجزون بكل بساطة عن الاستيراد”.
“طالما لا نستطيع التنبؤ بشهر واحد للأمام على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والنقدية، فانه من المستحيل علينا الاستمرار بادارة الشركات وايصالها إلى بر الامان”، يقول رئيس جمعية تراخيص الامتياز يحيى قصعة. “فهناك الكثير من الشركات التي تعتزم مغادرة لبنان في نهاية هذا العام. الامر الذي يمثل خسارة على كل المستويات”. فهذه الشركات العالمية تمثل استثمارات أجنبية مباشرة في الاقتصاد ومصدراً للعملة الصعبة أولاً. وثانياً تسدد ضرائبها بانتظام، وتوظف آلاف العمال وتقدم لهم الضمانات. والأهم انها “في حال خرجت من سوق ما لا تعود اليه بسهولة”، بحسب قصعة، “بل ان عودتها تتطلب تحقيق الاقتصاد مساراً طويلاً من الثبات والاستقرار كي تعيد حساباتها بدخوله مرة جديدة”. هذا الواقع يفاقم الخسارة ويحولها من عددية إلى بنيوية، بحسب قصعة. “وعلى الرغم من تمنياتنا الكثيرة على الشركات اعادة التموضع وتصغير حجم أعمالها وتقليص فروعها قبل ان تأخذ القرار بالخروج نهائياً، فان المشكلة التي ستواجهها هذه المؤسسات عند إجراء حساباتها نهاية العام ستكون كارثية.