في شهر أيلول المقبل، ستنتهي مدّة عقد الفيول العراقي، الذي يشتري بموجبه لبنان الفيول من العراق لمصلحة كهرباء لبنان، مقابل “دولارات محليّة” تودع في حساب خاص بالجانب العراقي لدى مصرف لبنان، بما يسمح للعراق باستعمالها بالليرة وفق سعر المنصّة. مع الإشارة إلى أن لبنان لم يسدد حتّى اللحظة هذه المستحقات، مستفيدًا من فترة السماح التي ينص عليها العقد.
من حيث المبدأ، لا يوجد ما يمنع لبنان من الالتزام بسداد مستحقاته الناشئة من هذا العقد، طالما أنّ ثمن الفيول سيُسدد في النهاية بالليرة اللبنانيّة، وطالما أن العراق سيستعمل هذه العوائد داخل السوق اللبنانيّة. الإشكاليّة الأساسيّة بالنسبة للعراقيين، تكمن في كيفيّة الاستفادة من المبلغ داخل لبنان، وهو ما يبدو اليوم مهمّة صعبة للغاية.
بالنسبة إلى الجانب اللبناني، يكمن التحدّي الأساسي حاليًّا في القدرة على إقناع العراقيين بتجديد العقد بعد شهر أيلول، خصوصًا أنّ إيقاف شحنات الفيول العراقي سيعني إطفاء معامل الكهرباء كليًّا، وخروج مؤسسة كهرباء لبنان عن العمل. وتجديد العقد، مرتبط بدوره بإيجاد سُبل الاستفادة من الدولارات المحليّة التي ستودع في مصرف لبنان، مقابل الشحنات السابقة التي تم توريدها حتّى اللحظة. فإيداع السيولة الدفتريّة في حساب خاص لدى مصرف لبنان، من دون تمكين العراق من استعمال هذه العوائد، سيضع العقد بأسره في خانة “الصفقات الخاسرة” بالنسبة للعراق، ما سيعقّد مسار تجديد العقد في أيلول.
هذا المشهد بالتحديد كان موضوع بحث الوفد العراقي الذي زار العاصمة بيروت خلال الأيّام الماضية، في محاولة للبحث في كيفيّة استعمال المبالغ التي سيتم إيداعها في مصرف لبنان. ولأن لبنان يحتاج إلى تسهيل مهمّة الوفد، لضمان تجديد العقد، اجتهد الوزراء اللبنانيّون الذين قابلوا الوفد لإيجاد المخارج اللازمة لاستخدام المبلغ محليًّا بأي طريقة ممكنة. ومع كل ذلك، بدا أن توظيف كل هذه السيولة في خدمات يمكن تقديمها للعراق محليًّا، بات مهمّة شبه مستحيلة، في ظل انكماش السوق اللبناني وضيق أفق الأنشطة الاقتصاديّة فيها. في خلاصة الأمر، وفي حال تجديد العقد في أيلول، ستكون العمليّة أشبه بصدقة من العراقيين على لبنان.
بالنسبة إلى آليّة سداد مستحقات الفيول العراقي، ينص العقد الموقّع بين لبنان والعراق على ما يلي حرفيًّا: “يستخدم الجانب العراقي، حصراً رصيد الحساب أعلاه كلياً أو جزئياً وفقاً للآلية التي سيتم الاتفاق عليها مع الجانب اللبناني، لغرض شراء السلع والخدمات لصالح الوزارات والمؤسسات العراقية، على أن يضمن مصرف لبنان استلام الجهات اللبنانية التي تقدم الخدمات للجانب العراقي مستحقاتهم باستخدام أوامر الدفع أو نقداً بالعملة المحلية عند الطلب، ومن الرصيد المتجمع في حساب البنك المركزي العراقي المفتوح لغرض تنفيذ هذا الاتفاق لدى مصرف لبنان، وحسب سعر (منصة صيرفة) أو سعر السوق الموازية المعتمد لدى مصرف لبنان، على أن لا يقل سعر (منصة صيرفة) عن (15%) من سعر السوق الموازي لمعدل الشهر الأخير. ويتم إشعار مصرف لبنان بأوامر الدفع بناء على اتفاقات تعقد بهذا الشأن وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من هذا الاتفاق”.
على هذا الأساس، تكون الحكومة اللبنانيّة قد سلّمت في عقد رسمي مع دولة أخرى -وللمرّة الأولى- بسعر السوق الموازية، أو السوق السوداء، كمعيار لتحديد سعر الصرف العادل المعتمد لسداد مستحقاتها. فالعقد الذي ينص على سداد المستحقات بالليرة وبحسب سعر المنصّة، يحدد هامش معيّن لسعر المنصّة الذي يمكن اعتماده، وفقًا للسعر الرائج في السوق الموازية (أن لا يقل سعر المنصّة عن 15% من سعر السوق الموازية). أمّا المفارقة الكبرى، فهي تضمين العقد عبارة “سعر السوق الموازية المعتمد لدى مصرف لبنان”، في حين أن المصرف المركزي لا يملك حتّى اللحظة سعر معتمد للسوق الموازية، باستثناء سعر المنصّة الذي ينص عليه العقد.
في كل الحالات، جميع هذه الأفخاخ التي نصّ عليها العقد، حمّلت الجانب العراقي مخاطر إئتمانيّة وازنة، وهو ما عكس تنازلاً كبيراً من قبله لتسهيل عقد الصفقة، التي سمحت بإبقاء مؤسسة كهرباء لبنان على قيد الحياة حتّى اللحظة. ومع ذلك، حرق لبنان ستّة أشهر من مهلة العقد الذي كان من المفترض أن يكون “معونة” مرحليّة ومؤقتّة، من دون إنجاز حل مستدام على المدى البعيد بالنسبة إلى قطاع الكهرباء. أمّا الإشكاليّة التي لم يفكّر فيها الجانب اللبناني حتّى اللحظة، فهي الكلفة غير المباشرة لهذا العقد، والتي ستظهر مع ضخ السيولة بالليرة اللبنانيّة بسعر المنصّة في السوق المحلّي بعد سداد المستحقات للعراقيين.
في جولة الوفد العراقي الأخيرة، بدا العراقيون حائرين في كيفيّة استخدام الدولارات المحليّة التي سيحصل عليها مصرفهم المركزي في حساب خاص في مصرف لبنان. وزارة الأشغال اللبنانيّة عرضت استخدام جزء من المبلغ لسداد رسوم مطار رفيق الحريري الدولي، ومركز تدريب الطيران الموجود هناك، بالإضافة إلى رسوم المرافئ اللبنانيّة ومراكز العبور الحدوديّة البريّة التي تربط لبنان بسوريا. كما عرضت وزارتي الصناعة والزراعة على الوفد إمكانيّة استخدام جزء آخر من المبلغ لشراء سلع صناعيّة وزراعيّة من لبنان، منتجة محليًّا.
ومع ذلك، وجد الوفد العراقي أن ثمّة صعوبة في استعمال المبلغ بأسره في هذا النوع العروض، خصوصًا أن حجم الرسوم التي تم الحديث عنها ضئيل قياسًا بالمبالغ التي يفترض أن يتم استخدامها من حساب المصرف المركزي العراقي في مصرف لبنان، فيما لم يجد الوفد مروحة واسعة من المنتجات المحليّة التي يمكن تسويقها في العراق لاستخدام المبلغ. مع العلم أن الإشكاليّة الأساسيّة باتت تكمن في حجم الانكماش الذي طال الحركة الاقتصاديّة في السوق اللبنانيّة، والحركة السياحيّة فيه، ما ينعكس في ضآلة حجم العمليّات المحليّة التي يمكن تمويلها بهذا النوع من العقود.