لم يكن ليخطر في بال “ساتوشي ناكاموتو” أن التقنية التي اخترعها في العام 2008 والتي عرفت باسم “بيتكوين”، ستتطور على مدار 11 عاماً، لتتجاوز حجم سوق العملات الرقمية المشفرة، ولو لفترة موقتة، 700 مليار دولار. ولتصبح منذ حوالى 3 سنوات موضوع اهتمام عالمي. ويزداد الحديث عنها مع كل تجاوز لقيمة الـ 1000 دولار (صعوداً أو نزولاً) لهذه العُملة، أو مع كل تراجع مُخيف لقيمتها. من هنا، يظن كثيرون أن عملاتٍ مثل البيتكوين ليست سوى مجرد نظرية واهية وبالتالي لا يمكن أن تكون لها قيمة باعتبار انها لا تستند الى شيء مادّي.
لكن وبحسب وجهة نظر ثانية، ليس تصاعد العملات الرقمية بالامر العجيب، وما تقدم سوق “البيتكوين” والـ”ليبرا”(عملــــة فيسبوك الجديدة وهي عملة مشفرة تزود المستخدمين بنظام مدفوعات عبر الإنترنت من دون رسوم أو معاملات دولية)، المولودتين حديثاً من رحم الفضاء الرقمي الا دليل على ذلك خصوصاً وان هناك مزايا لهذه العملة، أبرزها أنه لا رسوم على التحويلات، بعكس الأخرى التقليدية، بالإضافة إلى السرعة والسرية في نقل التحويلات بين الحسابات، وعدم خضوع التحويلات لسيطرة البنوك المركزية والحكومات. اما الإغراء الأكبر للعملة الرقمية في نظر الشركات الكبرى والبنوك فهي التكنولوجيا التي تستخدمها، والتي تختصر الوقت الذي يتطلبه إرسال الأموال عبر الحدود.لذلك، ليس هناك سببٌ كي لا تتحوّل العملات الالكترونية الى مستودعٍ أكثر كفاءةً للقيمة، ووسيلةٍ للتبادل، وأنّ دولاً تحاصرها أميركا والغرب مالياً مثل كوريا وايران من الطبيعي أن تلجأ الى هذه العملات لعقد صفقاتها.
تتوفر البيتكوين على منصات تبادل خاصة وليس في أسواق خاضعة لهيئة نظامية. وتتحكم بها مجموعة واسعة من مستخدمي الانترنت في غياب أي سعر صرف رسمي أو مصرف مركزي.
يجرى استبدال البتكوين بالعملات الرسمية كالدولار واليورو، عبر محفظة مالية يتحكم فيها العميل برقم سري خاص، عبر تطبيقات الكترونية، مرتبطة بالآلاف من أجهزة الكمبيوتر، تتحقق من صحة المعاملات وتضيف المزيد من عملات بيتكوين إلى النظام.
وتتم مدفوعات البيتكوين من خلال تطبيقات محفظة بيتكوين، إما من خلال الحاسوب الشخصي أو الهاتف الذكي، عن طريق إدخال عنوان المستلم والمبلغ المدفوع، ويمكن أن تستعمل لاستقبال تلك المدفوعات.
وتعتبر العملة المشفرة او Cryptocurrency شكلاً من أشكال المال الرقمي الذي تم تصميمه ليكون آمناً، وفي كثير من الحالات، مجهولاً من المرسل والمتلقي (اي غير معروف من ارسل المال والى من أُرسل). وهي عملة مرتبطة بالإنترنت المشفّر (كإرسال ايميل مشفر). كما ان عملية تحويل المعلومات المقروءة إلى شيفرة غير قابلة للإختراق، ولا يمكن تتبع عمليات الشراء والتحويلات.
ظهر علم التشفير مع الحاجة إلى الاتصال الآمن في الحرب العالمية الثانية. وقد تطور في العصر الرقمي مع عناصر نظرية رياضية وعلوم الكمبيوتر ليصبح وسيلة لتأمين الاتصالات والمعلومات والمال بواسطة الانترنت.
من الفقاعة… الى الانهيار
منذ حوالى عامين، ارتفع سعر صرف عملة بيتكوين الافتراضية على نحو متسارع ليصل الى مستوى غير مسبوق، وذلك، تماشياً مع الميل المتزايد لإخراج العملات من نطاق رقابة المصارف المركزية. لكن ما لبثت هذه العملة الرقمية ان بدأت تتكبد تراجعاً مباغتاً. ويمكن تشبيه ما آلت اليه الأمور بوقوع هجمات معلوماتية أو تضارب مصالح بين القيمين عليها أو إصدار الهيئات المالية الناظمة تحذيرات.
اليوم، تعاني أسواق العملات المُشفرة مع خسارة جميع العملات الإلكترونية بنسبة تتجاوز 50% من قيمتها مسجّلة خسائر فادحة.
ليس غريباً ان نشهد انهياراً لهذه العملة خصوصاً وان المصارف المركزية لم تكف عن محاربتها، باعتبار انها قد تستخدم لأغراض مشبوهة وهي ليست عملة حقيقية. لكن اعلان صاحب فيسبوك عن اطلاق عملته الرقمية الجديدة من شأنه ان يرفع سوق الـ cryptocurrencies من جديد لتصبح البيتكوين دعامة العملات الرقمية.
لقد كانت هذه العملة غير المدعومة بمادة حسّيّة (كالذهب) بمثابة فقاعة لذا من الممكن ان تنهار فجأة من دون انذار مسبق خصوصاً وان هناك عامل المضاربة بين العملات المشفرة، فالبيتكوين ليست عملة رقمية وحيدة بل هنالك عملات أخرى حتى وان كانت بيتكوين أشهرها. والسبب الأبرز لانهيارها يكمن في كونها غير آمنة في أحيان كثيرة.لا تخضع البيتكوين لرقابة بنك مركزي أو سلطة دولة معينة، ولأنها تستخدم عبر الإنترنت وليس لها وجود مادي، يسهل نقلها، كما أن عمليات تداولها السرية والمشفرة تعطي ميزة أخرى تجعل مستخدميها غير خاضعين للملاحقة.
البيتكوين تموّل الارهاب
كثيرة هي الدراسات والارقام التي تكشف زيادة عمليات تمويل الإرهاب عبر البيتكوين، فمؤيدو الجماعات الإرهابية والمتعاطفون معها يستخدمون العملة المشفرة ويروجون لها منذ أكثر من 7 أعوام على الأقل. من هنا تباينت مواقف الدول من هذه العملة بين ممانع لها ومجرّم لتداولها، وما بين مترقّب بحذر، وأخرى قبلت بها وفرضت عليها ضرائب؛ وقد اتسع نطاق الاستخدام والانتشار السريع للعملات الافتراضية، حتى ظهرت مؤشرات مهمة الى دخول الجماعات التكفيرية والارهابية هذا المساق، وبدأت تلوح في الافق ملامح خطورة هذا التوظيف السيئ للعملة الافتراضية.
إيران تتخطى العقوبات الاميركية
ان البيتكوين، ومن خلال تصميمها كعملة مشفّرة غير قابلة للتّتبع قادرة على مساعدة ايران بشكل كبير لمواجهة العقوبات الأميركية القوية والالتفاف حولها، لا بل تخطيها.
قد يكون من الصعب التنبؤ بالخط البياني لارتفاع هذه العملة او هبوطها الا انها باتت بلا أدنى شك المكون الاساسي في الحرب الاقتصادية بين واشنطن وطهران.
وإذا كان الاقتصاد الإيراني واجه صعوبات وعقبات كبيرة بسبب العقوبات المصرفية التي منعت فعلياً الشركات الأجنبية من القيام بأعمال تجارية في تلك البلاد، فإن إنجاز المعاملات التجارية والمصرفية بواسطة بيتكوين، التي يصعب تتبعها، يمكن أن تسمح للإيرانيين بدفع ثمن بضائع ومواد كثيرة مع تجاوز القيود الأميركية المفروضة على المصارف.
واذا كان تلويح الولايات المتحدة بعقوبات على ايران في السابق كافياً لتخوّف معظم الشركات من اجراء أي معاملة تجارية معها، وبالتالي افساد علاقات طهران التجارية، فان المدفوعات المجهولة التي تتم باستخدام البيتكوين يمكن ان تغير ذلك خصوصاً وان الاميركيين قد ينجحون في “تخويف” الشركات الكبرى لارغامها على الالتزام بقراراتها الا ان عدداً لا يحصى من الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم بوسعها ان تستغل العملات المشفرة أكانت بيتكوين أم غيرها لتسيير اعمالها.
وبعد ان وصلت قيمة البيتكوين الى 30.000 دولار ها هي تنخفض اليوم لتناهز الـ 8.000 دولار أميركي. لكن ماذا لو قررت ايران ان تتحول الى مركز دولي لتعدين البيتكوين خصوصاً وان الدعم الحكومي الذي يخفض تكاليف الكهرباء في طهران سخيّ لدرجة امكان خلق الطاقة اللازمة للحواسيب من اجل انجاز معاملات العملات المشفرة؟عندئذ هل تكون هذه “الحرب الاقتصادية” المقبلة؟