العملات الرقميّة: هل اقتربت بداية النهاية؟

لم تنفصل الحماسة للعملات الرقميّة يومًا عن الإيديولوجيا بمعناها الواسع، سواء أدرك المتحمّسون لها ذلك أو لم يدركوا. وحين نتحدّث عن الإيديولوجيا هنا، فنحن نشمل طيفًا واسعًا من الأفكار التي وجدت في العملة الرقميّة ضالّتها: من معتنقي أفكار أقصى اليمين التحرّري أو الليبرتاري، إلى أنصار أقصى اليسار الأنركي، وصولًا إلى الكثير من الشباب الذين التقطوا هذه الذبذبات الفلسفيّة في فهم الاقتصاد ودور الدولة من دون قصد أو معرفة. فبالنسبة إلى جميع هؤلاء، كانت العملات الرقميّة الأداة التي تسمح بتحرير النقد من هيمنة المصارف المركزيّة، والتداولات الماليّة من رقابة الحكومات والسلطات الضريبيّة، وأدوات الإدخار من سطوة النظام المصرفي التقليدي.

الكريبتو بوصفه مخلّص منتظر

إذا كان المطلوب، بالنسبة إلى جميع هؤلاء، تقليم أظافر الدولة في عالم المال، فأي أداة يمكن أن تكون أفضل من عملة لا يخضع خلقها لسيطرة أحد؟ وما الذي يمكن أن يتمناه المرء أكثر من أداة تداول لا يملك أحد القدرة على ضبطها أو السيطرة عليها؟ إنها الوصفة السحريّة لكل هؤلاء الحالمين بجنّة الاقتصاد خارج قبضة الدولة. وحتّى أولئك الذين تغزّلوا طويلًا بالعملات الرقميّة، من دون أن يملكوا خلفية سياسيّة واضحة، كانوا يعيدون تدوير الحجج الآتية من عالم الاقتصاديين المتطرّفين يمينًا ويسارًا، من كارهي تدخّلات الدولة النقديّة والضريبيّة.

وفي النتيجة، حوّل هؤلاء العملات الرقميّة إلى مخلّص منتظر، تمامًا كذلك الذي تتبنّاه الأديان السماويّة، وتنتظره الشعوب للقضاء على ما لحق بالبشريّة من فتن ومظالم. فبات هناك من يبشّر أن نظامًا ماليًّا تحكمه العملات الرقميّة لن يشهد الانهيارات المصرفيّة، التي تطيح بالمدخرات، ولا التضخّم الذي يضرب قيمة العملة، ولا قيود العمليّات الماليّة. إنّه الدواء الشافي لكل ما لحق بأسواق المال من تشوّهات ومخاطر ماليّة، صنعتها الدولة والمصارف المركزيّة.

بضعة أيّام أطاحت بالأوهام

بضعة أيّام كانت كفيلة بالإطاحة بجميع هذه الأوهام. في مطلع هذا الشهر، كانت بورصة التداول بالعملات الرقميّة أف.تي.أكس (FTX) تملك على الورق ما توازي قيمته 32 مليار دولار من الأصول، ما جعلها ثالث أكبر بورصة من هذا النوع. أمّا صاحبها سام بنكمان فريد، بأعوامه الثلاثين، وثروته البالغة 25 مليار دولار، فكان أسطورة الولايات المتحدة وفخر صناعة أسواق العملات الرقميّة.

كان سام قصّة الثراء السهل والممكن في عالم الكريبتو، وكانت أف.تي.أكس. تجربة نجاحه الباهرة، التي بناها بأقل من خمس سنوات. وفي تلك التجربة، كان هناك كل ما يتمنّاه عشّاق الكريبتو: مرونة الانتقال إلى الجنّات الضريبيّة، وسهولة تصميم النموذج الاستثماري الموزّع بين شركات مختلفة، وعمليّات التداول السريعة في أسواق متعددة في وقت واحد. كانت القصة أفضل ما يمكن أن يحلم به مجتمع العملات الرقميّة.

في أيّام معدودة، باتت قيمة البورصة بأسرها، بكل ما تحتويه ما أصول تعود للمستثمرين فيها، لا تتجاوز 659 ألف دولار أميركي، كما تبيّن في وثائق تفليس أف.تي.أكس. التي تقدّم بها محامو البورصة للسلطات الأميركيّة. أما ثروة سام الشخصيّة، فباتت من الماضي. انهيار مفاجئ وسريع، بدد أموال أكثر من مليون مستثمر في البورصة، وكشف فجوة من الخسائر التي أطاحت بالعملات الرقميّة التي يملكها هؤلاء. وحين نتحدّث عن فجوة الخسائر، فنحن لا نقصد خسائر استثماريّة طبيعيّة، كتلك التي ضربت مصرف ليمان براذرز خلال الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008، بل عن شبهات احتياليّة تذكّر بحاكم مصرف مركزي في دولة نامية إسمها لبنان.

باختصار، ثمّة شبكة احتياليّة من الشركات التي استخدمها الملياردير الصغير إبن الثلاثين عامًا، الشغوف بألعاب الفيديو، والذي بنى حوله فريقًا من المدراء المبتدئين في عالم البورصة، الذين لا يفوقونه اتزانًا ولا رجاجة عقل. وعندها فقط، أدرك العالم أن بإمكان عالم الكريبتو، المتفلّت من أي رقابة أو سيطرة، أن يكون أكثر خطرًا بأشواط من النظام المالي التقليدي. وأن علل اليافعين المولعين بلسلسة قصص “هاري بوتر”، كالذين عملوا مع سام، لا تقارن بعلل حكّام المصارف المركزيّة المقيّدين بنظرة تقليديّة إلى عوامل المال والنقد.

فشل متعدد الأبعاد

في خلاصة الأمر، وبعد كارثة أف.تي.أكس، فقدت أسواق العملات الرقميّة 183 مليار دولار من قيمتها دفعة واحدة، في خسارة مدويّة لكل من راهن على هذه العملات، ماليًّا أو معنويًّا. إلا أنّ الضربة الأهم لهذه العملات، كانت النقاش الذي فتحته في الدوائر السياسيّة والنقديّة والماليّة، عن مستقبل العملات الرقميّة، وموثوقيّتها كوسيط للتداولات الماليّة والادخار والاستثمار. وقد يكون من بين حكّام المصارف المركزيّة في الكثير من دول العالم، من الذين منعوا ولوج مواطنيهم لأسواق الكريبتو، كثيرون مِن مَن قالوا في سرّهم عبارة “قلت لكم” الشهيرة “I told you so”، تعبيرًا عن شماتتهم بهذه النتيجة. وقد يكون من بين هؤلاء، لسخرية القدر، حاكم مصرف مركزي اتخذ ذات يوم قرارًا كهذا، اسمه رياض سلامة.

إلا أنّ العالم لم يكن ينتظر قصّة سام ليدرك أن الأمور لا تسير على ما يرام بالنسبة للعملات الرقميّة. فوظائف النقد التقليديّة معروفة: أن تكون وسيلة دفع، وأداة إدخار، وأداة قياس للقيمة والتسعير. وعلى مدى السنوات الماضية، لم تفلح هذه العملات يومًا بالتحوّل لأداة إدخار آمنة ومستدامة، بعدما تحوّلت إلى أداة مضاربة، بالنظر إلى التذبذب السريع –نزولًا وصعودًا- في قيمتها، والذي لا يقارن بتذبذبات العملات التقليديّة. وللسبب نفسه، لم تنجح العملات الرقميّة في التحوّل إلى وسيلة لقياس القيمة والتسعير، بعد أن بات تقلّب أسعارها يحول دون اعتمادها كمرجع مستقر لتسعير السلع في الأسواق. وأخيرًا، لم تنجح العملات بالتحوّل إلى وسيلة دفع يمكن اعتمادها على نحو يومي، لشراء كل –أو على الأقل معظم- السلع والخدمات في السوق، إما بسبب تفادي المستهلكين التعقيدات التقنيّة، أو لعدم ثقة البائعين بتقلّبات أسعار هذه العملة.

أسباب لتطويق انتشار الكريبتو

في خلاصة الأمر، لا يوجد ما يوحي باتجاه مشروع العملات الرقميّة للنجاح كبديل عن العملات التقليديّة، بل أقصى ما يمكن توقّعه المرء هو استمرارها بلعب الدور الذي تلعبه اليوم، كوسيلة للمضاربة يعتمدها الشباب الباحث عن مغامرات ماليّة وأرباح سريعة. فقصّة أف.تي.أكس. كشفت مخاطر السوق المتفلّت من الرقابة، وتطوّرات السنوات الماضية كشفت عجز هذه العملات عن لعب دور العملات التقليديّة. إلا أنّ ابتعاد شريحة واسعة من الشباب عن هذه العملات اليوم، بعد فضيحة أف.تي.أكس، وما نتج عنها من خسائر، قد يدفع هذه العملات إلى خسارة دورها كأداة مضاربة أيضًا.

أمّا أهم ما سيعيق رواج هذه العملات، فهو عزلتها الناتجة عن خشية الحكومات والمصارف المركزيّة منها، وهي خشية تعبّر عن هواجس محقّة لا يفترض التقليل من أهميّتها. هل يمكن لأحد أن يتخيّل شكل الاقتصاد العالمي في كوكب تسوده العملات الرقميّة؟ سيكون بلا شك عالمًا قاسيًا، يسهل فيه تهرّب الأثرياء من الضرائب، ويصعب فيه على الحكومات جني الإيرادات لتمويل إنفاقها الاجتماعي. سيكون عالمًا يسهل فيه تبييض الأموال، بما فيها أي ثروة ناتجة عن أي عمل غير مشروع، بمعزل عن تحفّظنا على تسييس معايير مكافحة تبييض الأموال المعتمدة عالميًّا اليوم. لكل هذه الأسباب، ثمّة ما يكفي من أسباب ليناهض كثيرون انتشار هذه العملات، وثمّة ما يكفي من أسباب للاعتقاد بأنّ مستقبلها لن يكون مزهرًا، وقد يكون ذلك خبرًا سعيدًا للغاية.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةمنتدى «أبيك» يؤكد توسيع الفرص الاقتصادية وانفتاحية الأعمال
المقالة القادمةبعد حل إدارتي “البركة” و”فيدرال بنك” من التالي؟